إذا شكلت الأعمال الإبداعية محور لقاءات وندوات، ودراسات وكتابات، وجوائز أدبية، فإن النقد بعيد عن هذا الاهتمام إلا في حالات قليلة. وهو وضع يطرح سؤالا آخر، يتعلق بوضعية التفكير في المناخ العربي، ما دام نقد النقد، هو تحليل التفكير في الأدب. من أجل إحياء سؤال نقد النقد، نقترح الاقتراب من المشروع النقدي للناقد الأكاديمي المغربي عبد الرحيم جيران، الذي تشكل كتبه النقدية في السرد الأدبي مشروعا فكريا، يؤصل لمحاورة النص الأدبي خارج تبعية التنظير الغربي. وضع جيران دراسات وكتبا منها «سراب النظرية» و»علبة السرد – النظرية السردية: من التقليد إلى التأسيس» و»إدانة الأدب»، وهو في كتبه يعيد قراءة النظريات الغربية في السرد، ويناقش منطلقاتها الفكرية، والمنهجية، بعيدا عن التعامل معها باعتبارها معطيات معرفية جاهزة، غير قابلة للنقاش والجدال. كما بلور مفاهيم، وجعل لرؤيته منهجا عرف بـ» التجديلي التظافري» الذي يشخص رؤيته في قراءة العمل والنظرية والمعرفة والعلاقة بين الذات العارفة وموضوعها المعرفي، إضافة إلى روايتين «تحققان تحولا مهما في الكتابة السردية المغربية – العربية. ولعل من بين كتبه التي جسَد فيها محاورته لمفاهيم المنظرين الغربيين، كتاب» إدانة الأدب» (2008)، الذي جاء عبارة عن مناقشة لكتاب «تودوروف» «الأدب في خطر» (2007). يناقش عبد الرحيم جيران في كتابه هذا طروحات تودوروف بطريقة علمية، بل يحاوره في أسس منهجيته السابقة، باعتماد نظرية الأدب والنقد. وقد تبدو بعض أفكار جيران للبعض بسيطة، غير أنها تمثل داخل مشروع النقد الحواري جرأة فكرية، تُكسر سلطة المرجعية الغربية، باعتبارها جامعة ومانعة. لقد ناقش جيران تودوروف في قضايا كثيرة وردت في كتاب «الأدب في خطر»، ومنها الجمع بين هدفين مختلفين، من خلال الجمع بين قضية الأدب وقضية تدريس الأدب. والتعبير عن إمكانية إيجاد منهج متكامل، كما ورد عند تودوروف، من أجل تجاوز أزمة تدريس الأدب. إن محاورة جيران لهذه المسألة تعد مناقشة لمفهوم المنهج وفلسفته، فإذا كان كل منهج عبارة عن رؤية للعالم، وطريقة في التفكير، فالمنطلقات والنتائج تختلف. كثيرة هي القضايا التي ناقشها جيران، وحاور تودوروف في منطلقاتها المنهجية والفكرية، كما عبر عن مخاوفه من أفكار تودوروف، خاصة أنها تأتي بصيغة وصايا، ولذا فهو ينتقد البعد التوجيهي لأفكار تودوروف، كما عبر عن مخاوفه من تحول النقد إلى انطباعات.
تعتمد استراتيجية النقد الحواري لدى جيران على عنصرين اثنين: من جهة، الذات الناقدة ذات فاعلة بالسؤال والحوار. إذ، يدافع مشروع جيران على حضور الذات في الممارسة النقدية ليس باعتبارها مجرد كيان مستهلك، وإنما رؤية للعالم، ووجهة نظر، وسؤال فاعل. امتلاء الذات بالخبرة، ونضجها مع جودة تمثل النظريات الغربية، هو الذي ينتج ذاتا تفكر وتحاور. فلكي تحاور فلابد أن تتخلص أولا من القيم السلبية التي تحملها عن ذاتك، التي تجعلك تدخل مجال الحوار الثقافي- الحضاري بإحساس الذات الناقصة، التي تبحث عن اكتمالها من خلال الآخر. يؤدي بنا هذا المبدأ إلى العنصر الثاني: تجاوز فكرة اليقين المعرفي. تحضر النظريات الغربية باعتبارها مراجع للمناهج والطروحات النقدية، وللمفاهيم والمصطلحات، وكذا أسئلة نظرية الأدب. إن شكل الذهاب إلى النظريات الغربية يمنحها سلطة المرجع، وطبيعة الذهاب تمنح لهذه السلطة اليقين المعرفي. تعطل مسألة الاعتقاد باليقين المعرفي النظر إلى النص الأدبي موضوع الدراسة، مثل النص العربي. لهذا، يتجاوز مشروع جيران فكرة اليقين المعرفي، في ما يخص النظريات الغربية. يغير جيران منطق الذهاب إلى النظرية الغربية، ويجعله ذهابا مزدوجا. ذهاب من أجل المعرفة أولا، وبطريقة تتمثل النظرية في سياقها ونوعية أسئلتها، وثانيا لمحاورة هذه المعرفة. غير أن هذا الذهاب لا يحقق المعرفة المحاورة إلا من خلال تاريخ القراءة الواعية. لهذا، تشكل الوقفة مع الذات في مشروع جيران خطوة مهمة، وعملية ضرورية للانخراط الحقيقي في الحوار المعرفي مع الآخر. يمكن اعتبار هذا المبدأ عنصرا جوهريا، بل منطلقا أساسيا في مشروع جيران النقدي. ويكفي أن نقرأ مقدمات كتبه النقدية التي تكرس هذا المبدأ الذي تختزله الجملة» «فالهاجس الذي كان يشغلني، خلال بناء هذا المشروع النظري، كان ماثلا في القطع مع وضع ملتبس ترتهن فيه الذات العربية إلى محاكاة الآخر من دون محاورته» (علبة السرد ص 6)، حتى ندرك أهمية حضور الذات في الخطاب النقدي.
أهل العنصران «حضور الذات» كوجهة نظر و»التخلص من فكرة اليقين المعرفي» الناقد جيران لكي يكون محاورا للنظريات الغربية، ويتحرر من سلطة اسم الناقد. ويعبر كتابه «إدانة الأدب» الذي جاء عبارة عن محاورة لكتاب « تودوروف» الأدب في خطر»، عن تحقيق هذا الحوار الثقافي الفكري بين ذاتين معرفيتين، تنتميان إلى سياقين مختلفين، (أوروبي غربي ومغربي عربي).
يشكل مشروع عبد الرحيم جيران النقدي، استمرارا لتطور النقد المغربي الحديث الذي مر بمرحلتين مهمتين، تميزت الأولى بالتمثل التاريخي- السياقي للنظريات الغربية، وفهم عملية إنتاج المعرفة النقدية من المعرفة الإبداعية، ثم الاجتهاد العلمي والفلسفي في تمثل طرق استلهام منطق تلك النظريات على مستوى النص الإبداعي العربي والمغربي، مما جعلنا ننتج معرفة مدهشة من النص العربي. وقد مثلت هذه التجربة المهمة في تاريخ النقد المغربي الحديث، أعمال كل من الأساتذة محمد برادة، وأحمد اليابوري ورشيد بنحدو وغيرهم كثير، وهو جيل من النقاد ساهم في خلق جيل أبدع بدوره في إنتاج هذه الرؤية التي جعلت العالم العربي ينتبه إلى النقد المغربي، ويمنحه المرجع في تمثل النظريات الغربية. ولاشك أن هذه الرؤية النقدية ساهمت في إنتاج أطروحات جامعية مهمة، تم تحويلها إلى كتب نقدية، تعتبر الآن من أهم المراجع النقدية عربيا، كما حصدت جوائز أدبية. أما المرحلة الثانية فهي تطوير القراءة من داخل النص العربي، خاصة النص التراثي. وأعني بها، تلك القراءات والاجتهادات النقدية التي تمثلت النظريات الغربية، وطوَرت تجربة الفهم، من خلال النص العربي، وعلى الخصوص النص التراثي الذي يتميز بناؤه ولغته ونظام ترتيب عناصره بمنطق خاص، يستجيب لأسئلة سياق خاص. ونذكر هنا تجربة كل من الأساتذة النقاد محمد مفتاح مع الشعر العربي القديم، وسعيد يقطين مع السرد التراثي، وعبد الفتاح كليطو مع تجربة النص التراثي، وهناك أسماء كثيرة في هذا الاتجاه، وجيل جديد بدأ ينهج الاتجاه نفسه مع ملامح إبداعية خاصة مع النقاد الشباب. يعبر هذا الاتجاه عن تطوير الرؤية الأولى التي اعتُبرت الركيزة الأساسية في مسار النقد المغربي.
لا تشكل تجربة جيران النقدية حالة نرجسية، تفرط في الثقة، إنما الأمر مرتبط بالوعي «باللحظة التاريخية التي نعيشها، التي تتطلب منا أن نتخلى عن وضع التتلمذ الاستهلاكي، وأن نحاول الحضور في العصر عن طريق انخراطنا في المساهمة في بناء صيرورته والإضافة إليه» (علبة السرد ص 9).
زهور كرام/ عن القدس العربي