رستم محمود
قبل نصف قرن، عُقدت معاهدة الجزائر بين العراق وإيران، حيث كان إنهاء دعم الأخيرة للحركة القومية الكردية في العراق بقيادة الملا مصطفى بارزاني المادة الأساسية في تلك المعاهدة.
وقتئذ، كان بارزاني أمام واحد من خيارين قاسيين، إما التخلي عن الكفاح المسلح وترك كردستان مع عشرات الآلاف من مقاتليه وعائلاتهم، وإما متابعة الأمر، في ظل عراء جيوسياسي. فتوقف الدعم الإيراني كان بتوجيه من الولايات المتحدة، وفي وقت كان الجيش العراقي ينمو ويتطور بفضل المعاهدة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفياتي، وتاليا مواجهة مذبحة مفتوحة ومسكوت عنها، ستصيب المجتمع والجغرافيا الكردية وستهدد حتى بقاء الديموغرافيا الكردية نفسها.
تجرع بارزاني “سُم الترك”، مفضلا هزيمة ذاتية وحزبية، بعد ثورة استمرت 14 عاما، على أي إعصار قد يصيب شعبه. غادر إلى إيران، ومات بحسرة بُعده عن بلاده، سماه الصحافي المصري الشهير محمد حسنين هيكل حين التقاه في طهران “الصقر الجريح”.
طوال قرنٍ كامل، كانت الحركة القومية الكردية في خبيئة نفسها السياسية، تعتبر ذلك درسا أوليا ومبدئيا في ممارسة السياسة، في العراق ومختلف دول المنطقة. فحسب مقاسها، ظلت مجتمعاتها وحتمية بقائها واستقرارها المستدام في أماكنها التاريخية معطى أوليا ومطلقا، يمكن ويجب فعل كل شيء في سبيله، بما في ذلك استخدام كل أشكال البرغماتية السياسية والميدانية، وصولا إلى الاستسلام العسكري والسياسي أحيانا كثيرة.
قبل بارزاني كان الشيخ محمود الحفيد في أوائل القرن العشرين قد فعل ذلك مع الاحتلال البريطاني للعراق. ومثله كان الشيخ سعيد بيران في تركيا في أواسط العشرينات، القاضي محمد في أواسط الأربعينات مع السلطة الإيرانية عقب انهيار جمهورية كردستان في مدينة مهاباد، و”حزب العمال الكردستاني” جرب استسلاما نسبيا وتغيرا جذريا في استراتيجيته ومطالبه بعد اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان أواخر القرن الماضي. الأحزاب الكردية في سوريا بقيت لقرن كامل تهادن مختلف السلطات الشمولية الحاكمة، كي لا تدفع ثمنا يتجاوز حجمها وقوة حضورها الديموغرافي المحدود للغاية.
أيهما أكثر صلاحاً للفلسطينيين، بقاء “حماس” في موقع سلطوي أم تخليها النسبي عن بعض حضورها؟
الأكراد وقواهم السياسية الأكثر ارتباطا بقضيتهم يعرفون جيدا أن الصراع والكفاح الكردي في المحصلة ليس نوعا من حروب الجيوش والدول، ليس فيه معطى “الضربة القاضية”، وهزيمة وفشل تجربة ما ضمن السياق الكلي لأية قضية كردية لن يعني انتفاء القضية بذاتها، فهي مستدامة بفضل عامل واحد فحسب، هو استمرار المجتمع الكردي وحفاظه قدر المستطاع على أسباب ديمومته. بدلالة أن كل تلك التجارب، عادت وانتعشت مجددا بعد فترة قصيرة من “تجارب الاستسلام” التي ذُكرت.
تعيش حركة “حماس” شيئا مطابقا لذلك. يأتيها على شكل سؤال سياسي/وجودي مغلق الإجابات: إما حركة “حماس” وإما المجتمع والشعب الفلسطيني.
يحدث ذلك لتطابق أولي بين القضيتين الفلسطينية ونظيرتها الكردية على الدوام، وللظرف الميداني الصفري الذي وضعت الحركة نفسها فيه، مقيدة كل الشعب الفلسطيني- الباقي على أرضه تحديدا- بسياساتها وأفعالها الميدانية وما اختارته من سياق وآلية لفعلها على أرض الواقع.
لم تكن هذه المعادلة بعيدة عن الفلسطينيين وقضيتهم يوما، الذين جربوا “الخيار الكردي” مرات لا تُعد. فخرجت الحركات الفلسطينية من الأردن عام 1970، بفضل الخيارات المعتدلة للزعيم الراحل ياسر عرفات، الذي عاد وتبنى عام 1974 برنامج “النقاط العشر” الذي أعدته “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين” ويبدو في منتهى البرغماتية، وتضمن القبول بتسوية مع الإسرائيليين. وحين حُوصر المقاتلون الفلسطينيون في بيروت عام 1982، فضلوا الانسحاب على “الانتحار بمقاتليهم وشعبهم” وحلفائهم اللبنانيين ومدينة بيروت، ولما ضاقت بهم الدُنيا عقب الانتفاضة الأولى، قبلوا بـ”الأقل الممكن” في “اتفاق أوسلو”، لتكون الحركة التحررية الفلسطينية بين شعبها، وتعيد بلورة نضاله على أرضه.
لا تبدو حركة “حماس” مبالية بذلك السياق، وأسسه المنطقية وفروضه السياسية. فبعد قرابة 40 ألف ضحية، وضعفهم من الجرحى، والدمار الكلي الذي أصاب البقعة المحررة الوحيدة من أرض فلسطين، قطاع غزة، حتى إنها صارت مكانا غير صالح للحياة، يحضر سؤال بسيط: أيهما أكثر جدارة وصلاحا للفلسطينيين وقضيهم، بقاء “حماس” في موقع سلطوي مسلح مستدام في القطاع، مع استمرار هذه المأساة، وربما توسعها لتشمل مناطق أخرى من جغرافيا فلسطين، أم تخليها النسبي عن بعض مواقعها وسلطاتها وحضورها وتمسكها الأسطوري بالخروج “منتصرة”، على أن تستمر تيارا سياسيا فاعلا ضمن الشعب الفلسطيني وقضيته، وتنقذ بذلك جزءا من الشعب الفلسطيني وتؤمن بقاءه على قيد الحياة؟
هل “حماس” امتداد لمصالح إقليمية ليست مطابقة لمصالح الفلسطينيين، وغالبا على الضد منها تماما؟
خيارات “حماس” في هذا الإطار تكشف ثلاث قضايا مركبة، تخص ما تقوم عليه الحركة من مضامين: مدى ثقة هذا التيار السياسي بشرعيته وحضوره وتمثيل خياراته السياسية لتطلعات الشعب الفلسطيني. إيمان الحركة بديمومة تلك الشرعية أيا كان الموقع السلطوي وأدوات القوة التي بيدها، كيفما تحولت، حتى لو تنازلت أو خسرت واقعة ما.
المسألة الأخرى تتعلق بما تتخيله وتصف به الحركة “القضية الفلسطينية” نفسها، فهل هي قضية الشعب والجغرافية الفلسطينية أولا ودائما، أم قضية “حماس” فحسب؟
وتاليا هل تؤمن الحركة أن هذه القضية يمكن لها أن تستمر مع “حماس” ومن دونها أم لا؟
أخيرا، يكشف الأمر عن الهوية السياسية الفعلية للحركة، كتيار سياسي وطني داخلي، تبني حساباتها وحساسياتها حسب ذلك، أم إنها استطالة لمركز واستراتيجية إقليمية لها نظرة ورؤية ومجموعة من المصالح، ليست مطابقة بالضرورة لما للشعب الفلسطيني، وغالبا على الضد منه تماماً.
المصدر: موقع المجلة