نصرانية سركون بولص وجه آخر لعزلته، وربما لتحفيز شعريته الخبيئة. السفر الى مدن (أين) يوهبه غواية البحث عما يشبع غرائزه غير الطليقة، والمباحة لتآويل العقل السياسي والديني.. لذا كان نفوره الشعري بحثا استيهاميا عن خلاص ما، خلاص في الجسد والروح والهوية والمعنى والشيطنة التي تطارد الشعراء دائما، وانحيازا لذاته الشعرية الطاعنة في ضجيجها واحتجاجها غير المعلن.
في ذكرى رحيله السابعة لا نستعيد صورة الشاعر العائلي او التاريخي او حتى الايديولوجي او الجيلي، بقدر ما يكتسب الحديث نجاعته من خلال استعادة صورة الشاعر المارق، والنافر عن السياق، والمتورط بفداحة رؤية ما لا يراه الاخرون، والباحث عن وظائف غير (مسلكية) للشاعر، اذ الامكنة امامه سائلة وحذرة وملتهبة كأنها جحيم دانتي، وان الشعر بتوصيفه القلق والماكر سيكون هو الممر السردي للبرية، وللخلاص من رهاب (وعيه الشقي) والانخراط في لعبة البحث عن المعنى والفكرة والعبارة والرؤية من خلال ما يتساقط من اللغة في لحظات اشتباكها مع الوجود..
حين نستعيده اليوم، وفي هذه اللحظة العربية الفاجعة، لا نجد انفسنا بعيدا عن لحظة التمرد التي اصطنعها بولص، لانها لحظة شخصية ولحظة وجودية في آن معا، ولانها تعبير عن احساس الشاعر المرعوب بان العالم العربي يعيش هاجس اللغة، بوصفها تعبيرا عن فكرة القوة، واستدعاء الحرب، او حتى جرّ التاريخ من ياقته الى لعبة تدوين مشبوهة، فالشاعر- في سياق هذه المفارقة – هو الشمّام الاكبر لرائحة الفجيعة والنصّات المدهش لصوت الحرب وطبول المحاربين، او احسبه الداعية لما يمكن ان يحدث من الخراب القادم، لاسيما وان يوميات العراق السياسي العاصفة في نهاية الستينات وبداية السبعينات- حين هاجر الشاعر الى بيروت – كانت تعني له استشرافا وحدسا عن بداية القلق من سطوع يوميات رعب الدولة الايديولوجية، وهي بالطبع يوميات مضادة لما هو شعري، وما هو انساني، حدّ ان الشعراء الذين جايلهم بولص ارتكبوا ايضا لعبته الاثيرة في الهروب بحثا عن حرياتهم- انور الغساني، مؤيد الراوي وفاضل العزاوي وصلاح فائق- واحسب ان سركون بولص المسالم جدا لم يشأ ان يمارس لعبة النفور، الاّ بعد ان ادرك ان (نصرانيته) او(اشوريته التائهة) صارت هوية وقناعا اضطراريا للهرب، وان الشعر- مهما تغوّل- سيظل وظيفة عابرة، تصلح للفرجة والمتعة والاستعراض، ولغريزة المقهى او المهرجان او الجريدة والمجلة، واذ هو ليس شاعر حزبيا او ايديولوجيا او حتى (وطنيا) بالمعنى الاستهلاكي للوطنية، فلا بدّ ان يكون الخلاص خيارا، ولو عابثا، ولعلي اجد في مجموعته «الوصول إلى مدينة أين» دليلا عن هذا الخيار القاسي.. وحتى كتاباته الشعرية الاخرى «الحياة قرب الأكروبول، الأول والتالي، حامل الفانوس في ليل الذئاب، إذا كنت نائماً في مركب نوح، عظمة اخرى لكلب القبيلة» لا تكشف الاّ عن تحولات الوجه الشعري عند سركون بولص، اذ ظلت الوجوه الاخرى مشدودة إلى ما هو يومي وعادي وعائلي ومزاجي، وحتى قصيدته التي يفضح فيها بعض اقنعته الخبيئة، تفرض حضورها الدلالي على تعلق الشاعر بلحظته الوجودية العميقة والمضطربة..
أنا في النهار رجل عادي
يؤدي واجباته العادية دون أن يشتكي
كأي خروف في القطيع لكنني في الليل
نسر يعتلي الهضبة
وفريستي ترتاح تحت مخالبي.
سركون بولص ليس الشاعر الأكثر إثارة في (جيله) الشعري الصاخب منذ اواسط الستينات، ولا حتى داخل جماعته (جماعة كركوك) لكنه كان الاكثر تأملا، والاكثر اقترابا من ذاكرة الاسطورة، اسطورة المدن السومرية، واسطورة طوفانها وسحرها، مثلما هو الاكثر استشرافا وانحيازا الى ما تكشفه شهوة اللغة، والى موضعة الشاعر الفرد في مواجهة دائبة مثيرة مع الوجود، عبر المزيد من اصطناع الاسئلة، وعبر اثراء انوية الشاعر بكل ما يكشفه، وما يلمسه، وما يلتذ به، لاسيما وان الاغلب من شعراء اللحظة العراقية في الستينيات كانوا يركبون عربات الاحزاب والثورات والبيانات السريالية..
نزوع الشاعر للتأملية اسبغ على قصيدته فرادة في اشتغالاتها الفنية، وفي دفعها للاستغراق بما هو وجودي، اكثر من أي همّ اخر، واحسب ان هذه الوجودية المسكونة بنوع من الاغتراب الداخلي كانت العتبة الاكثر تفجيرا لعوالمه الشعرية ولكشوفاته التي يعدّها البعض اللحظة التعبيرية الفاصلة بين ريادة السياب وجيله، وبين الستينيات التي عصفت (اسلوبيا) بالشعر العراقي والعربي الى اقصى التجريب والمغامرة والمجازفة، تلك التي لم تجعله يطيق لبس المعطف القديم طويلا..
كرسيّ جدّي ما زالَ يهتزّ على
أسوار أوروك
تحتَهُ يعبُرُ النهر، يتقلّبُ فيهِ
الأحياءُ والموتى.
أبي في حراسة الأيّام
لم تكن العَظمة، ولا الغُراب
كانَ أبي، في حراسة الأيام
يشربُ فنجان شايه الأوّل قبل الفجر، يلفّ سيجارته الأولى
بظفْر إبهامه المتشظّي كرأس ثومة.
تحت نور الفجر المتدفّق من النافذة، كانَ حذاؤهُ الضخم
ينعسُ مثل سُلحفاة زنجيّة.
كان يُدخّن، يُحدّقُ في الجدار
ويعرفُ أنّ جدرانًا أخرى بانتظاره عندما يتركُ البيت
ويُقابلُ وحوشَ النهار، وأنيابَها الحادّة.
لا العَظمة، تلك التي تسبحُ في حَساء أيّامه كأصبع القدَر
لا، ولا الحمامة التي عادت إليه باخبار الطوَفان.
سقط الرجل
في وسَط الساحة
سقطَ الرجُلُ على رُكبتيه.
هل كان مُتعَبًا إلى حدّ
أن فقدَ القُدرة على الوقوف؟
هل وصلَ إلى ذلك السدّ
حيث تتكسّرُ موجةُ العُمر النافقة؟
هل قضى عليه الحزنُ بمطرقة يا تُرى؟
هل كانَ إعصارُ الألم؟
رُبّما كانت فاجعة لا يطيقُ تَحَمّلها أحد.
ربّما كان ملاكُ الرحمة
جاءَ ببَلطته الريشيّة عندما حانَ لهُ أن يجيء.
ربّما كان الله أو الشيطان.
في وسط الساحة
سقطَ الرجلُ فَجأةً مثلَ حصان
حصَدوا رُكبتيه بمنجل.
جسدي الحيّ في لحظته
النوافذ مُغَطّاةٌ بستائرها المُخَرَّمة، وأنا
راقدٌ في سريري، بؤرةً لشَذراتٍ آتية من باطن أرضي أنا، جسَدي
الحيّ في لحظته، هذا التنّور الذي لا يكفُّ عن تَدوير الأرغفة
للجياع المزدحمينَ على بابي.
وجهي مُعَلّى للسماء وما من زاويةٍ للتنَحّي
شَعري مُعَفَّرٌ بأتربة الشمس، والهواءُ يدخلُ قُمرات سفينة
أبعثُ بها الى البحر، بين آونةٍ وأخرى، مصنوعة من كلماتي.
كلماتي المليئة بالنذائر، والنُذُر، ومفاجآت أيّامي.
هي الأثقَل من تُراب قبر أبي المجهول في مسقط رأسي.
لا، لستُ الطريحَ الذي قد تتخيّل، على سرير انعزالاتي
أبعدَ من أن تصلني صيحاتُكَ المجيدة.
النورُ يُملّسُ وجهي، والرؤيةُ قد تُحيلُ جدرانَ غرفتي
إلى مسرح ورقي، يُشعلُ فيه النارَ عُودُ ثقاب.
يدي قد تُسقطُ حِمْلها من الكلمات على هذه العتبة المغطّاة بالخطى
وتُبَعثرني ريحُ الربّ الغاضب المترنّح في مسيرتهِ عبرَ الصحراء كحَفنةٍ من الحنطة.
(آه، يا أوجُهَ التواريخ الجريحة!)
هذا أنا: صوتُ أجراسي الخفيّة في اللحم، أعلى من عاصفةٍ وشيكة.
علي حسن الفواز/ عن القدس العربي