الكتاب هنا، يمسكون بيد القارئ، يقودونه عبر شوارع واسعة أحيانا، وضيقة في أحيان أخرى، يدخلونه مولات التسوق، والأحياء الشعبية والراقية، وبؤر الضجة وجذب السياح، وحتى المواخير والأندية الليلية بكل مواصفاتها، في سياحة أشبه بالسياحة الحقيقية التي يقوم بها أحد داخل مدينة ما.
هذه المدن المذكورة، بعضها يتكرر في عدة روايات، بينما مدن أخرى لا ترد أسماؤها، ولا مرة، رغم ما فيها من ضجيج وصخب، واحتمال أن تولد داخلها القصص الغريبة، وتنمو باستمرار.هذا لا يعني بالتأكيد خصوبة مدن معينة، مقابل جفاف أو عقم، مدن أخرى، فقط، بعض الأماكن تحتاج لوقت طويل من استيعاب تاريخها وحاضرها وحيلها أيضا، والاحتكاك بذاكرتها، حتى تساهم في عمل أدبي.. والمثير في الأمر، ان الكتب الأدبية التي تذكر مدنا بعينها، تمنح أيضا قدرا من التشويق، ليس للقارئ العادي وحده، وإنما لكتاب الرواية أيضا، الذين قطعا يودون التعرف إليها عن قرب، ليكتشفوا إيحاءها وحدهم.
لذلك حين قرأت روايات مثل: «ليلة لشبونة» للألماني أريك ماريا، و»الشتاء في لشبونة» للإسباني أنطونيو مونيوز مولينا، و»بيريرا يدعي» للإيطالي الراحل أنطونيو تابوكي، التي تدور أحداثها أيضا داخلد لشبونة في البرتغال، تملكني إحساس غريب بأنني ربما أضعت شيئا مهما، بعدم زيارتي لشبونة حتى الآن.
ورغم أن تلك الأعمال لا تشبه بعضها في أي شيء، ولا يربط بينها سوى ما وهبته لشبونة من مكان وأجواء وطقوس، إلا أن القارئ يحس بالفعل أنها متشابهة، وقريبة من بعضها.
«ليلة لشبونة» كانت عملا عظيما عن الحرب العالمية الثانية، وما سطرته من مأساة للشعوب الأوروبية، تماما كما تفعل حروبنا في الوطن العربي الآن، من تشريد وقتل، وتدمير للبنى التنموية للدول، وطمس لهويات الشعوب المغلوبة، إنها رواية واضحة ولئيمة جدا في جعل العدو عدوا وكفى، والصديق في زمن الحرب عدوا، أشد ضراوة من العدو نفسه. رواية إنسانية، ومرة، وفيها شيء من السعادة أيضا، لأن العمل الروائي، هو بالضرورة عمل اجتماعي، وأبطاله من البشر، حيث يحتمل حدوث الضحك والابتسام، مثلما يحتمل حدوث البكاء، وأجدني دائما وأنا أتحدث عن ثمار الحروب المرة، أسرع نحو هذه الرواية، ولا أدري لماذا علقت هي في ذهني، وتوجد أعمال كثيرة كتبت عن الحرب، مثل: «المريض الإنكليزي»، لكنها لم تبق في ذهني طويلا.
«ليلة لشبونة» عمل آخر، عمل يتحدث عن الحب والهجر، والوصال، والهجر من جديد. هي قصة ستبدو عادية جدا، لو قصت لنا بأدوات كلاسيكية، بعيدة عن الخيال وتقنية الغرابة التي وضعها الكاتب الإسباني، وواضح بالطبع أن لا جديد سيهز قارئا متمكنا أو حتى مبتدئا، في قصة عازف موسيقي، أحب امرأة متزوجة وأحبته، حين شاهدته يعزف في ناد ليلي، وشاهدها من بين أنفاس البوق، ودخان السجائر. الأحداث بعضها في سان سباستيان، وبعضها في لشبونة، وأيضا هنا تأتي المدينة بعوالمها ومساحاتها المختلفة، لتعطي العمل صبغته.
الجديد في قصة العازف: سانتياجو بيرالبو، والحبيبة لوكريثيا، زوجة بائع التحف التي عشقها، وعادت من برلين للقائه، بعد ثلاث سنوات من الرحيل، هو أن القارئ لا يعرف بالتحديد، في أي زمن من أزمنة القص، هو موجود ويتابع، سيجد القارئ نفسه في عدة أزمنة مختلفة في السطر نفسه، ويستمع لعدة رواة في الوقت نفسه، من دون أن يحس بأي خلل.. يا لتلك التقنية الصعبة وذلك الاقتدار الذي رصفه مولينو، حين حول قصة العشق الباردة المكررة في آلاف الكتب والألسنة، إلى تحفة مضيئة، بعد أن عرج الطريق، وأكثر من المطبات التي تغري بمتابعة السير، أكثر من الإعاقة عن التقدم.. رواية من لشبونة مهمة. ورواية عن إيحاء الأماكن.
«بيريرا يدعي»، أكثر الروايات انتشارا للإيطالي أنطونيو تابوكي، وهي الرواية الوحيدة التي أعتبرها عظيمة في نتاج ذلك الكاتب المتخصص في اللغة البرتغالية، وقضى زمنا في لشبونة، وفهمها جيدا. هنا تابوكي يكتب بطله كتابة سائح في المدينة، وتبرز في روايته رائحة الأماكن ومعمار الحياة، أكثر من الروايتين السابقتين، ويبدو بيريرا، الصحافي الثقافي، الذي يعمل في مهنة غير جذابة، ويعاني من السمنة وأمراض القلب والتعرق، متنقلا من مكان إلى مكان، ومحتكا بكائنات مجتمعية كثيرة، قبل أن ينتهي النص الخصب، بفراره من المدينة، بعد أن نشر فضائح السلطة التي قتلت معارضا في بيته. إنها إذن رواية مغموسة في حبر السياسة، فقط جاءت بفنيات عالية، غطت على الضرر البليغ الذي في العادة تصاب به الأعمال التي تتحدث مباشرة في السياسة.
على نهج لشبونة، نجد مدنا أخرى يلسعها الحكي وتلسعه، نجد باريس ولندن ونيويورك، ونجد عند العرب، بيروت والقاهرة، وحتى مدينة جدة والخرطوم، نجدها أيضا مكتوبة كاملة، وأحيانا ناقصة، وكما قلت فإن الأدب في جزء من وظيفته، تأتي المعرفة، والمعرفة في روايات الأماكن هنا، أقرب للمعرفة السياحية، وأجزم أنني تعرفت على أماكن في مدن عربية وأوروبية، من خلال الروايات، وحين زرتها بعد ذلك، وجدتني أعرفها بالفعل.
شخصيا نادرا ما أكتب اسم مدينة في أعمالي، ليس لعدم أهمية ذلك، فقط لأنني من مدرسة كتابية أخرى، يعتبر الغموض والأسطوري من دروسها الرئيسية.
عن القدس العربي