“أنا وبس.. والباقي خَس”

لو كان ثمة قِسْمة لضمائر اللغة بين الشعوب، فلا شك أن الرفاق العُرْبان سوف يسارعون للاستئثار بضمير الرفع المنفصل (أنا). فلو أنكَ جلستَ بين حشد من العربان، في مكان مغلق، لتَرَدَّدَ لفظُ الـ (أنا) في مسمعيك، مثلما تَتَرَدَّدُ الصرخات التي (تموج في الوادي و”مْعَنْزَق” عليها ضباب)، بتعبير ميشال طراد في أغنية جلنار الفيروزية.
لا توجد لدي رغبة في أن أسير على خطا جماعة علم النفس، فأتحدث عن (الأنا) الفردية والجمعية؛ بل أريد أن أذهب باتجاه المفارقة الكوميدية التي يصنعُها رفيقُنا الرجلُ العربي حينما يلفظ كلمة (أنا)، بحكم العادة، بمعدل ثلاث مرات في الدقيقة، وفي كل مرة يشعر بأن لسانه قد زَلّ، فيستدرك قائلاً: وأعوذ بالله من كلمة أنا، أو أنه يتصل بك مائة مرة لأجل أن يحصل منك على (ميعاد) للقاء، فما إن تلتقيا وتجلسا معاً في مكان ما حتى يقول لك: أنا.. وأنا.. ثم يُقسم على ذلك بحياة مَنْ جمعكما من غير (ميعاد)!
المطرب الكبير الراحل فريد الأطرش الذي داعبه الأديب الساخر محمد الماغوط، إذ أطلق عليه لقب “ملك النواح والندب”، يستخدم الـ (أنا) بطريقته البكائية: أنا عمرٌ بلا شباب! ويجعلُ شقيقته أسمهان تستخدم الضمير نفسه بتواضع، وبِجَلْدٍ للذات واضح في أغنية “أنا اللي أستاهل كل اللي يجرى لي”. وأما الهرم الرابع، محمد عبد الوهاب، الذي يشجيه الأنين، فيقول: أنا والعذاب وهواك عايش لبعضنا. ويعترف بالإخفاق والجري وراء السرب بقوله: “أنا مَنْ ضَيَّعَ في الأوهام عمرَهْ”.
ولكن، ليست هذه الطريقة هي المثلى لاستخدام ضمير الأنا، فأكثرية الناس يستخدمونه للتباهي، وللتفاخر، بل ولـ “المنفخة” كما في قول المتنبي:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي   وأسْمَعَتْ كلماتي مَن به صممُ
أنام ملءَ جفوني عن شواردها   ويسهرُ الخلقُ جراها ويختصمُ
وقوله:
أنا تِرْبُ النَّدى ورَبُّ القوافي    وسِمَامُ العِدَا وغيظُ الحسودِ
أنـا فـي أمة تداركهــــا الله    غـريبٌ كـصالحٍ في ثـمودِ
أريد أن أقول، بعد هذا كله، إن التربة الأكثر صلاحية لاستخدام (الأنا) هي تربة الاستبداد، ولا أدل على ذلك من هتفة فرعون مصر: أنا ربكم الأعلى.
ولئن كان سحيم بن وثيل الحميري قد أضمر التفاخر بقومه، حينما أنشد:
أنا ابنُ جلا وطلاع الثنايا   متى أضع العمامة تعرفوني
وإن مكانَنا من حميريٍّ    مكانُ الليثِ في وسط العرينِ
إلا أن الحجاج استخدم عبارته ضمن منحى آخر، مختلف.
فحينما دخل الكوفةَ، يحيط به جنده وحراسُه ومرافقوه، كان، بالفعل، يشبه (الليث في وسط العرين)، وتَشَبَّهَ بالليث الغاضب عندما اعتلى المنبر، وقال: أنا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود. أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني.
ثم تراءت له رؤوس البشر التي أينعت وحان قطافُها، فقال: (أنا) صاحبها. (أنا) أرى الدماء بين العمائم واللحى!
رُوِيَتْ حكايتان متشابهتان عن طبيبين، أحدهما ينتمي إلى الحضارة الأوروبية، والثاني ينتمي إلينا نحن العرب المَيَامين. أجرى الأول عملية جراحية معقدة لمريض ذي وضع خطير. بمعنى آخر، كانت العملية تمثل مفترق طرقٍ للمريض، فإما أن يشفى أو يموت، أو يصاب نخاعه الشوكي ويؤدي ذلك إلى إصابته بالشلل.
نجح الطبيب بعمله. قال له واحد من ذوي المريض. شكراً لك أيها النطاسي البارع، لقد أنقذت حياة مريضنا. قال الطبيب، ببساطة: طبعاً.
الموقف نفسه جرى مع طبيبنا العربي. تلقى الشكر فقال: أنا؟ أعوذ بالله، من أنا حتى أنقذه، لقد أنقذه الله تعالى، وما أنا إلا سبب لإنقاذه.
هذا ما قاله على سبيل التواضع، وفيما بعد، أمضى عمره وهو يقول: أنا أنقذت فلاناً. والله، لولاي لمات وشبع موتاً!
خطيب بدلة / عن العربي الجديد