“داعش” يكشف هواتف الأفراد.. و”آبل” تحمي الجمهور!

بعد الضوء الكاشف الذي ألقاه خبير المعلوماتية الأميركي إدوارد سنودن على الإمكانات التي تمنحها المعلوماتية لمؤسسات الدولة في رقابة الاتصالات بأنواعها كافة، صار هاجس حماية معلومات الفردية، من قوائم العناوين والمكالمات إلى رسائل “إس أم إس” مروراً بمواد “واتس آب”، مهيمناً بصورة واسعة. ويشير بروز ذلك الهاجس إلى انتشار متواصل في الغرب للوعي بأهمية حماية المعلومات الفردية في أجهزة الاتصالات.
ولا يقتصر التجسس على “وكالة الأمن القومي”، ولا حتى على المؤسسات الاستخباراتية المتعددة التي كشف سنودن أنها منخرطة في التعاون مع تلك الوكالة. ماذا لو وسّعت “وكالة الأمن القومي” نطاق تعاونها؟ ففي الوقت الحاضر، تنخرط أميركا في نسج شبكة تحالف لمحاربة “داعش”، ماذا لو جاء في سياق التحالف التعاون في مجال التنصّت على شبكات الاتصالات وأجهزتها، بما فيها هواتف الأفراد؟ ألا يعني ذلك أن الحرب على “داعش” تضع أجهزة الاتصال الشخصيّة في مهب التجسّس الإلكتروني لوكالات استخبارات متعاونة، محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً؟
بقول آخر، وضعت حرب “داعش” الشرق الأوسط وشعوبه قسراً في مسار الاهتمام بالحماية التقنيّة للمعلومات الفرديّة على الهواتف الشخصيّة، وهو ما يعبّر عنه تقنيّاً بمصطلح “تشفير” Encryption المعلومات.
وبديهي أن يظهر من ينادي أيضاً، في السياق عينه وللأسباب نفسها، بحماية مكالمات الأفراد. وفي استعادة سريعة، استطاعت غير وسيلة إعلاميّة (لعل أبرزها صحيفة “دير شبيغل” الألمانيّة) التواصل مع الخبير سنودن عبر استخدام نُظُم لتشفير تلك الاتصالات بصورة فرديّة. والأرجح أن نقاش ذلك الأمر يحتاج إلى مساحة اخرى.
التشفير بوصفه ضرورة معاصرة
في ظل تلك الأسئلة المقلقة، لاح ضوء صغير لكنه مهم، على الأقل بالنسبة للجمهور العام، الذي يصعب على أفراده أن يكونوا على مستوى التمرّس التقني الذي تملكه مؤسّسات الدول أو خبير المعلوماتية سنودن! وقبل الخوض في تفاصيل ذلك الضوء، يجدر التذكير بأن امتلاك نظام لتشفير المعلومات الفرديّة لم يعد مسألة رفاهية ولا حتى هواية تقنيّة، بل بات مسألة ملحّة. وطريّ في الذاكرة أيضاً أن الرئيس الأميركي باراك أوباما، في التفاتة غير مألوفة لمسألة من ذلك النوع، طالب الجمهور العام بألا يعتبر مسألة التشفير موضوعاً تقنيّاً صرفاً ولا هامشيّاً، بل أنه “يجب على الجميع التدرّب على التشفير”، وفق كلمات أوباما التي لم يكن زمانها بعيداً من اللحظات المتوترة لتفجّر فضيحة التجسّس الإلكتروني الشامل لـ”وكالة الأمن القومي” الأميركيّة.
إلتمع ذلك الضوء الخافت من شركة “آبل”، تحديداً مع إطلاق هاتفها “آي فون 6”. وقد رافقت انطلاقة ذلك الهاتف ضجّة كبرى، لكن قلّة اهتمت بحضور مسألة تشفير المعلومات في نظام تشغيل “آي فون 6”. إذ يبدو أن “آبل” التقطت فعليّاً الخيط المستجد في الاتصالات المعاصرة، الذي يمثّله التشفير. ربما يصح أيضاً القول أن الشركة لم تنطلق من اهتمامها بحماية الجمهور، بقدر اهتمامها بأرباحها، خصوصاً أن حصّتها في الهواتف الذكيّة باتت تتآكل باستمرار في ظل احتدام المنافسة مع هواتف مُشابهة.
الأرجح أنها كانت بادرة ذكاء من “آبل” أن تلتفت إلى اهتمام الجمهور بحماية المعلومات التي يضعها الأفراد على هواتفهم الذكيّة، عبر دمج نظام قوي للتشفير ضمن نظام تشغيل هواتف “آي فون 6″، وهو يحمل إسم “آي أوس 8” iOS8. ويشمل التشفير المعلومات التي تخزّن على ذلك الهاتف مباشرة، بمعنى أنها لا تشمل المعلومات الموجودة في الإنترنت، كتلك المتراكمة في شبكات التواصل الاجتماعي بأنواعها.
وللمرّة الأولى، بات مستطاعاً حماية المعلومات في الخليوي بأنواعها كافة، بما فيها الصور والرسائل وقوائم الأصدقاء ولوائح الاتصالات وقوائم تواريخ المكالمات، بمعنى أن هاتف “آي فون 6” يعمل على تشفيرها بصورة مؤتمتة، من دون أن يطلب منه ذلك. واستطراداً، من الضروري القول إن الجمهور يستطيع أن يساهم بنفسه في تدعيم نظام التشفير، عبر تغيير أرقام الدخول إلى بطاقة الخليوي (تعرف بإسم “بي آي إن” PIN، وهي غالباً تتكوّن من 4 أرقام)، وجعلها كلمة شخصيّة تحتوي أرقاماً وحروفاً.
أميركا والتحالف والمعلومات!
أثارت خطوة “آبل” جدالاً في الولايات المتحدة، لأنها جاءت بعد منازعة قانونيّة كسب فيها نشطاء حماية الخصوصيّة الفرديّة قراراً قضائيّاً يساوي بين البيت والهاتف الشخصي، ما يعني أن الدخول إلى معلومات الهاتف بات يستلزم إذناً قانونيّاً، تماماً كحال الدخول إلى منزل لتفتيشه.
في الغرب، هناك من جادل أيضاً بأن “آبل” إنما تحاول استعادة جزء من سمعتها المفقودة، كغيرها من شركات المعلوماتية والكومبيوتر والاتصالات، بأثر مما كشفه سنودن عن تعاون الشركات مع “وكالة الأمن القومي” في التجسّس على اتصالات الأفراد ومعلوماتهم. وبقدرٍ ما، تبدو تلك الحجة مبرّرة في سياق غربي على رغم أنها ليست خالية من الميل إلى المحاكمة على النيّة والمحاسبة على الضمائر.
وفي سياق أعمق أثراً، احتجّت مؤسّسات أمنيّة أميركيّة على خطوة “آبل”، ما فتح باباً للنقاش عن مصير هاتف “آي فون 6” في… الصين! إذ جهدت شركة “آبل” للحصول على موافقة حكومة بيجين على بيع “آي فون” في بلاد “العم ماو”، عبر تنازل الشركة عن حقها في مقاضاة شركة “كزيومي” الصينية التي تصنع هواتف مستنسخة من “آي فون”، ما يجعل النقاش عن الحق في الدخول إلى معلومات الهواتف مسألة ساخنة.
لنفترض أن الشرطة الصينية حصلت على “آي فون” لأحد المحتجّين في “هونغ كونغ”، كيف تتصرّف إذا لم تستطع كسر شفرة ذلك الخليوي والدخول إلى المعلومات المسجّلة فيه؟ المثير في الموضوع أن نظام التشفير في هواتف “آي فون 6” ليس موصولاً بالشركة، كما كان الأمر في كل النُظِم السابقة، ما يعني أن الشركة هي أيضاً لا تستطيع الدخول إلى المعلومات المسجّلة في هاتف “آي فون 6”!
ماذا لو طلبت جهات حكوميّة، سواء في الصين أو في التحالف الذي تقوده أميركا في الحرب على “داعش”، من شركة “آبل”، مساعدتها في كسر شفرة شخص ما يعارضها، ثم مانعت “آبل” في التعاون معها؟ كيف ينعكس ذلك على العلاقة بين تلك الحكومة وهواتف “آبل”، بل منتجاتها كافة، وكيف يتفاعل الجمهور مع ذلك الشأن عينه؟ مجرد عيّنة من أسئلة تتكاثر…