سمير عمر
: مين هيدا؟!
: ولد.
: عارف إنه ولد!
: حنظلة.
: وليش داير ضهره للناس؟!
: من يوم ما خرج من فلسطين وهو عمبيطلع عليها، وعشان الناس دايرة ضهرها لفلسطين صار بيتهيألك إنه داير ضهره للناس.
على هذا النحو دار الحوار بين فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، ومسئول التحرير في جريدة السياسة الكويتية أواخر ستينيات القرن الماضي، حيث كتبت شهادة ميلاد شخصية حنظلة.
يرد مسؤول التحرير: فكرة عظيمة بس لازم نشرحها للقارئ.
ليقدم ناجي العلي تعريف حنظلة للقارئ بهذه الطريقة الساخرة:
“عزيزي القارئ اسمحلي اقدم لك نفسي. اسمي حنظلة. اسم أبوي: مش ضروري. أمي اسمها نكبة، وأختي اسمها فاطمة.
نمرة رجلي: ما بعرف لإني دايما حافي.
جنسيتي: أنا مش فلسطيني مش كويتي مش لبناني مش مصري. محسوبك إنسان عربي وبس”.
التقيت صدفة الرسام ناجي “كاره شغله لأنه مش عارف يرسم”، وشرح لي السبب: “كل ما بيرسم يا بيحتج زعيم يا وزارة يا سفارة”، وقال لي: “ناوي يشوف شغله غير ها الشغلة”.
بعد ما طيبت خاطره وعرفته عن نفسي قلت له إني مستعد أرسم عنه الكاريكاتير كل يوم، وفهّمته أني “ما بخاف من حدا غير الله واللي بده يزعل يروح يبلط البحر”.
ومنذ سجلت السياسة الكويتية أول ظهور رسمي لحنظلة وحتى اغتيال ناجي العلي في لندن عام 1987، ظل الطفل ذو السنوات العشر العاقد يديه خلف ظهره موليا وجهه شطر فلسطين، أيقونة فلسطينية وعربية.
كان العلي ثوريا جامحا ترفض ريشته الخضوع لغير ما يراه صحيحا، وجسدت قصة حياته واغتياله على يد “مجهولين” محطات النضال الوطني الفلسطيني، منذ ولادته في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين مرورا بالنكبة وانتقاله مع أسرته إلى مخيم عين الحلوة في لبنان، ومرحلة الخميسنيات وما شهدته من تطورات مهمة على الساحتين الفلسطينية والعربية، ثم انتقاله للعمل في الخليج العربي وظهور حركة فتح وانطلاق المقاومة الفلسطينية المسلحة، ومن بعدها نكسة يونيو ثم انتقاله إلى لبنان فالخروج منها بعد الاجتياح الإسرائيلي، حتى الرحيل في عاصمة الضباب.
كان جموح رسومات ناجي وأفكاره شاهدة كذلك على تناقضات الفصائل الفلسطينية وتناحرها إلى حد الاقتتال الداخلي، لذلك لم يكن غريبا على رجل كانت هذه سيرته أن تكون تلك نهايته، نهاية مازال يكتنفها الغموض الذي بلغ مداه بتوجيه الاتهام في اغتياله لمنظمة التحرير، أو للموساد الإسرائيلي لإلصاق التهمة بالقيادة الفلسطينية، التي كانت رسومات ناجي وتعليقات حنظلة تثير غضبها، بل وثورتها في كثير من الأحيان.
“خيبتنا الأخيرة”
قبل اغتيال ناجي العلي بنحو عام، كان شاعر فلسطين الأشهر محمود درويش قد دعا إلى لقاء بين الأدباء العرب والإسرائيليين، وهو ما أثار غضب العلي، فأطلق العنان لريشته الجامحة لترسم “محمود خيبتنا الأخيرة”، مستعيرا تعبير درويش الشائع آنذاك “بيروت خيمتنا الأخيرة”.
لم يكن درويش ليقبل ما اعتبره إهانة لا تغتفر، حتى لو صدرت من فنان يحترمه ويحب رسوماته التي كانت رفيقة قهوته الصباحية على حد تعبيره، فاستشاط غضبا واتصل بالعلي معاتبا، ليتصاعد الحوار بين الرجلين ويصل حد أن هدد درويش العلي بالطرد من لندن، ليرد الأخير بلهجته الساخرة: “على كل حال انتو يا عمي السلطة، وعملتوها من قبل وأخرجتوني من الكويت، وصديقك ياسر عرفات هددني بأن يضع أصابعي في الأسيد إذا لم أسكت، وما عادت فارقة معي يا محمود، هالخد صار معوّد عاللطم”.
نُشر نص هذه المكالمة العاصفة بعد ذلك في مجلة الأزمنة العربية بعددها 170 عام 1986، فاتسع نطاق الأزمة إلى الحد الذي دفع البعض للربط بين ما دار بين العلي ودرويش وبين حادث الاغتيال، وهو الأمر الذي يصعب تصديقه بالتأكيد، لكنه ترك غصة في حلق درويش ظهرت في رثائه لناجي العلي بعد اغتياله، حيث قال: “حين استشهد ناجي العلي سقطت من قلبي أوراق الأغاني لتسكنه العتمة، الاختناق في الحواس كلها، لا لأن صديقا آخر، صديقا مبدعا، يمضي بلا وداع فقط، بل لأن حياتنا صارت مفتوحة للاستباحة المطلقة، ولأن في وسع الأعداء أن يديروا حوار الخلاف بيننا إلى الحدود التي يريدونها ليعطوا للقتيل صورة القاتل التي يرسمونها وليتحول القتلة إلى مشاهدين”.
خيبات جديدة
كانت خيبة العلي فيما طرحه درويش كبيرة، لأن مقام درويش عند ناجي العلي كان كبيرا، وهذا ما قاله له في المكالمة الشهيرة، صحيح أن درويش لم يواصل السير في الطريق الذي حذره ناجي العلي من المضي فيه، لكن بقي عنوان الخيبة حاضرا في الذاكرة الجماعية للمثقفين العرب.
وبقى نموذج ناجي العلي حاضرا كذلك، بكل ما يحمله من جموح ثوري لا يحيد عن بوصلة حنظلة، هذا الطفل ذي السنوات العشر العاقد يديه خلف ظهره موليا وجهه شطر فلسطين، حتى يخاله المرء “داير ضهره للناس”.
المصدر: سكاي نيوز عربية