غزة غيّرت إسرائيل وهي غيّرت فلسطين!

الهجوم الأخير لـ«حماس» غَيّر الطريقة التي يرى بها الإسرائيليون جيرانهم في غزة. في السابق، نظر الإسرائيليون إلى «حماس» على أنها شيئان في وقت واحد. أولاً، على أنها كانت جماعة إرهابية جهادية متطرفة ذات ترسانة صواريخ خطيرة، ثانياً وفي المقابل، كانت أيضاً قوة لضبط النفس في قطاع غزة. عندما سعت «حركة الجهاد الإسلامي» الفلسطينية، ومقرّها غزة المرتبطة بـ«محور المقاومة»، إلى إثارة الصراع مع إسرائيل، ظلت «حماس» في كثير من الأحيان سلبية أو في بعض الأحيان تمنعها بقوة من القيام بأي نشاط. كان التفكير هو أن «حماس» حكمت غزة، وبالتالي كانت لها مصلحة في رؤية القطاع يتجنب كارثة إنسانية. وكان يمكن لإسرائيل استخدام الجزر والعصي لضمان عدم اتخاذ المجموعة خطوات من شأنها أن تعرّض الأمن القومي الإسرائيلي للخطر. لأكثر من عقد من الزمان، عملت هذه المعادلة بشكل جيد، مع فترات اشتعال طفيفة فقط كل بضع سنوات؛ إذ بقيت أقل بكثير من عتبة «الحرب الشاملة».

أثار عدد القتلى لا سيما المدنيين منهم القلق الوجودي في البلاد بحيث لم يترك لصانعي القرار في تل أبيب سوى القليل من الخيارات، منها القضاء على المجموعة وتسوية الكثير من غزة.

وأشارت التقارير الإخبارية الأولية، إلى أن «حماس» لم تتوقع أن تصل الهجمات إلى النسب التي وصلت إليها – والآن ستعاني من عواقب «نجاحها». ومن المهم «وجودياً» أن تترك إسرائيل غزة وبقية المنطقة (وبخاصة «حزب الله» اللبناني) مع شعور بأن «حماس» والشعب تحت حكمها يأسف بشدة لما تم القيام به.

داخل إسرائيل، وضعت البلاد جانباً إلى حد كبير انقساماتها السياسية، ولكن عدم وجود قيادة جادة من حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ظل أمراً واضحاً. حيث كان نتنياهو غائباً إلى حد كبير عن أعين الجمهور ولم تكن خطاباته ملهمة بالمقارنة مع خطاب رئيس الوزراء السابق نفتالي بنيت، الذي لبّى حتى واجب الاحتياط.

وكان وزراء نتنياهو الذين ساهموا بشكل كبير في الصراع الداخلي خلال العام الماضي غائبين أو مهمشين إلى حد كبير، ولكن حتى من دون أن يهاجم هؤلاء الرعاع خصومه السياسيين، فشل رئيس الوزراء في جلب جميع الأحزاب الوسطية الرئيسية إلى مداره لتشكيل حكومة وحدة وطنية تتخلص من المتطرفين اليمينيين.

وسيكون إصلاح الائتلاف من مجموعة من المحرّضين اليمينيين المتطرفين إلى مجموعة من المهنيين ذوي الخبرة الوسطيين مفيداً بشكل خاص في إرسال رسالة إلى «حماس»، مفادها أن فرصتهم لضرب إسرائيل المنقسمة قد مرّت منذ ذلك الحين. ومع ذلك، فإن نتنياهو غير راغب في الانفصال عن أعضاء اليمين المتطرف في ائتلافه.

يشعر نتنياهو بالقلق من أن القيام بما هو ضروري لتشكيل حكومة وحدة وطنية خلال الأزمة الحالية يمكن أن يتركه من دون ائتلاف بعد توقف إطلاق النار في غضون بضعة أشهر.

لقد كشفت أزمة غزة حقاً عن تدهور حكومة نتنياهو المملوءة بالمحسوبية. لقد هبّ جنرالات لإنقاذ المدنيين، في حين لا يمكن العثور على وزير الأمن القومي اليميني المتطرف. كما يذهب مدنيون للحديث تلفزيونياً لأن المسؤولين الحكوميين لا يستطيعون ذلك.

من المقرر الآن أن تقدِم إسرائيل على ضربة عقابية لـ«حماس»، ولكن من الصعب التنبؤ بما إذا كان القتال سيتوسع إلى لبنان أو سوريا أو العراق أو اليمن.

أما بالنسبة إلى لبنان، فقد بدأ «حزب الله» سلسلة من التبادلات النارية مع إسرائيل، ليكتشف درجة عالية من الاستعداد التشغيلي الإسرائيلي، حيث نشرت القوات في حالة تأهب قصوى.

من ناحية أخرى، يسمع «حزب الله» بوضوح من أطراف لبنانيين أنهم لا يريدونه أن ينجرّ إلى حرب من شأنها أن تؤدي إلى دمار على مستوى البلاد من أجل «حماس». بالإضافة إلى ذلك، «لا يستطيع (حزب الله) مفاجأة إسرائيل في هذه المرحلة بعد أن نشر الجيش الإسرائيلي قوات كبيرة في الشمال في الأيام الأخيرة».

ثم مع قدراته، من المفترض أن يكون «حزب الله» درعا لإيران في حال رغبت إسرائيل في مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية، فلماذا استخدامه الآن من أجل الفلسطينيين ثم ترك إيران عاجزة إذا ما قررت إسرائيل أو الولايات المتحدة العمل ضد المنشآت النووية الإيرانية؟ لقد كتب الصحافي الأميركي الصهيوني المخضرم سيمور هيرش مقالاً في «النيويورك تايمز» قال فيه: إن «بعد أحداث غزة وبعد أن تصمت المدافع سيؤدي الأمر إلى نهاية بنيامين نتنياهو السياسية. فسوف يخضع رئيس الوزراء للتحقيق مهما كانت نتائج حربه على (حماس) والشعب الفلسطيني»، وبحسب هيرش «سيُظهر التحقيق الآتي لا محالة مدى مسؤوليته عن قرارات وإخفاقات أقدم عليها، أدت إلى النجاح الساحق لعملية (حماس)».

ولكن أبعاد عملية «حماس» كانت أكبر وأعمق من إزالة رئيس وزراء تتحكم به شهوة السلطة والكراهية والحقد إلى جانب الفساد الذي أُدين به. ولكن وقت الحساب هو ليوم آخر. الآن، ما سيقدِم عليه نتنياهو هو فائق العنف في القتل والتنكيل والتدمير للكثير من الأسباب، أحدها محاولة الخروج من أزماته الداخلية، فهو ينفذ مخطط اليمين المتطرف بتشتيت الشعب الفلسطيني وإنهاء «أوسلو» ومعهما حل الدولتين. ولم يملك وزير الدفاع يواف غالانت أي حرج بإنذار ما يزيد على مليون فلسطيني من سكان غزة بمغادرة منازلهم خلال 24 ساعة، وكان هذا في مؤتمر صحافي نقلته شاشات التلفزيون حول العالم. وسبق هذا، مؤتمر صحافي آخر لنتنياهو توعد به، أن القصف الذي يحصل هو مجرد بداية لما سيتبع من عمليات، وبدا المشهد في إسرائيل وكأنه تناغم إذا لم يكن تنافساً بين أركان اليمين على التطرف والعنف ومشابهاً لما حصل في ألمانيا النازية، بينما الدول الغربية الكبرى تقوم بتبرير مريب لما يحصل ضد المدنيين العزل.

وإذا كان الوقت ليس وقت المحاسبة في إسرائيل؛ فالأمر نفسه يسري على الجانب الفلسطيني وستتم محاسبة «حماس» بلا شك عما إذا كانت نتائج ما أقدمت عليه لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته أو ضدهما، إنما سيتم ذلك بعد انتهاء المعارك. وإلى حينه، وعلى مدى الأسابيع المقبلة، سيكون العنف والتطرف غير المسبوقين هما سيدا الموقف.

يقول أحد الحكماء: إن الماء عندما يغلي يحجب رؤية ما في جوفه، وكذلك الأمر عندما تغلي الأحداث، وإلى أن تبرد سيحترق الأبرياء العزَّل وتحجب الرؤية عن العالم.

هدى الحسيني

المصدر: الشرق الأوسط