منطقة اليوسفية التي هجرها المفرجي كانت تسمى قبل الغزو الأميركي عام 2003 مدينة البطاطا، كونها صاحبة الرقم القياسي في إنتاج على مستوى العراق، فضلاً عن منتجات أخرى جعلت منها بمثابة السلة الغذائية للعاصمة والمناطق المجاورة، لكن الحال اليوم تغير تماماً فلا أصوات للمضخات أو الماكينات الزراعية، بعد أن حلت محلها أصوات قذائف المدافع والطائرات وأزيز الرصاص الذي لا ينقطع على مدار الساعة.
قرار الرحيل لم يقتصر على المفرجي الذي كان من المتأخرين في اتخاذ هذه الخطوة إذ سبقه إليها أكثر من 320 عائلة هجروا منطقتهم بالكامل بعد أن باعوا مواشيهم ونقلوا القليل من الأثاث معهم إلى أماكن نزوحهم الجديدة والمتوزعة في المناطق ذات الأغلبية السنية في العاصمة بغداد، حيث سكنوا بشكل جماعي في بيوت مستأجرة أو مباني قيد الإنشاء، في حين تمكن عدد قليل منهم من الوصول إلى أقرباء أو مخيمات نظامية في إقليم كردستان بشمال العراق.
يتقاسم الفلاح النازح إيجار بيته الجديد مع ثلاث عوائل أخرى إحداها عائلة أخيه وأخرى قادمة من منطقة جرف الصخر في محافظة بابل، وعائلة ثالثة من “الطارمية” في شمال العاصمة بغداد، وجميعها مناطق تدور فيها معارك مستمرة وتتعرض بشكل يومي للقصف بالطائرات، مما أجبر أهلها على تركها وإخلائها بشكل كامل.
صعوبة الإحصاء
الناشط الإغاثي والمسؤول السابق في جمعية الهلال الأحمر العراقي سلام الكربولي يرى أن عملية إحصاء النازحين في العراق شبه مستحيلة، لأن البعض يلجأ لمناطق نائية جداً تخلو من أي تمثيل حكومي أو مؤسساتي قادر على عملية الإحصاء فضلاً عن النزوح المتكرر، مستشهداً بأن نازحي مدن الأنبار والذين سكنوا في محافظة صلاح الدين نزحوا مرة أخرى بعد انتقال المعارك إلى مناطق نزوحهم الجديدة، فيما رحلت مئات العوائل بعد يومين فقط من عودتها إلى مدنها الأصلية في الفلوجة والرمادي بسبب تجدد عمليات القصف الجوي والمدفعي.
”
يعتبر ايهاب مرجعاً في الأساليب التي يجب اتباعها من أجل الحصول على اللجوء، والروايات التي يجب حفظها لسردها أمام موظف الامم المتحدة
”
ويرى الكربولي أن جميع الأرقام المقدمة من وزارة الهجرة العراقية أو منظمات الهلال الأحمر، أو شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة وصولاً إلى الجمعيات الخيرية تعد أرقاما تخمينية، لأن جميع الجهات تعجز عن الوصول إلى كافة الأماكن التي سكن فيها النازحون، مبيناً أن الموصل مثلاً شهدت نزوحا كثيفا من داخلها وأطرافها وفي ذات الوقت لجأت عوائل كثيرة من بغداد ومحافظات الأنبار وصلاح الدين إلى داخل الموصل، لافتاً الى أن هذه التحركات تجعل الإحصاء الدقيق عملية مستحيلة.
بالاعتماد على الأرقام التقريبية التي يدونها الكربولي وبمقارنتها بإحصائية الأمم المتحدة نجد أن الرقم يقترب بسرعة من 1.900.000 نازح في عموم العراق من إجمالى 33 مليون عراقي، ويتبين أن محافظة الأنبار تستحوذ على أكثر من ثلث الرقم وأن أغلب مدن المحافظة شهدت حركة نزوح، فيما تأتي من بعدها محافظة صلاح الدين التي ضرب النزوح بها مدن بيجي وتكريت والدور تحديداً، وتليها محافظة نينوى التي طال التهجير فيها الأقليات من مسيحيين وأيزيديين وشبك وتركمان وشيعة، في حين طالت عمليات التهجير عدداً من مدن محافظة ديالى ومنها المقدادية وأجزاء من بعقوبة وقرى نائية، بينما تركزت أعمال التهجير في العاصمة بشكل أكبر على المناطق المحيطة بها والتي تسمى (حزام بغداد).
كل المكونات متضررة
بالمقابل تعد أربيل المنطقة الأمثل للإحصاء بسبب وجود مخيمات نظامية وتمثيل لأغلب الجمعيات والمنظمات العالمية المتخصصة بشؤون النازحين ومنها منظمة (بانا) الخاصة بشؤون التعايش السلمي ونبذ العنف والتي يعمل مديرها أوميد أنورعلى توثيق الحاجات والأعداد المتزايدة للنازحين ويحتفظ بأرقام تقريبية لهم.
ووفقاً لإحصائيات منظمة (بانا) فإن عدد النازحين في إقليم كردستان يصل الى (1,400,000) فرد يتوزعون إلى 52% ذكور و48% إناث و30% أطفال، يتوزعون على ثلاثة مخيمات في أربيل والسليمانية ودهوك واثنين يجري العمل على إنشائهما فضلاً عن عشرات الأبنية الحكومية والبيوت المستأجرة والمصايف التي تغص بأعداد النازحين.
ويستعرض أنور جانبا من أرقام محافظة الأنبار فقط والتي تبين أن ما يقارب 16 ألف عائلة تركت مدينة الفلوجة و16250عائلة رحلت من مدينة الرمادي و7420 عائلة من مدينة هيت و4500 عائلة من مدينة حديثة فضلاً عن بضعة آلاف أخرى رحلت من بقية المدن الأنبارية.
ومع إقراره بأن جميع المكونات العراقية متضررة من حركة النزوح والتهجير، إلا أن أوميد أنور يرى بأن الأقليات هي الأكثر تأثراً وفي مقدمتها المسيحيون والأيزيديون فضلاً عن الشبك ومن بعدها المكون العربي السني، الذي يشكل العدد الأكبر من النازحين المتواجدين داخل أراضي الإقليم ويشير إلى أن محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وأجزاء من ديالى وبغداد هي أكثر المناطق المصدرة للنازحين.
النزوح الطائفي
مثلما نزح السنة والمسيحيون وبعض الأقليات إلى إقليم كردستان فإن النازحين الشيعة اختاروا المحافظات الجنوبية وخصوصاً كربلاء والنجف اللتان شكلتا المكانين الأكثر استقطاباً للنازحين حيث يؤكد مصدر من مكتب رئيس الحكومة المحلية في كربلاء نصيف الخطابي استقبالهم لما يقارب الـــ13 ألف عائلة، وهو أعلى رقم من بين بقية المحافظات الجنوبية.
ويتم إسكان معظم النازحين في المحافظات الجنوبية في دور عبادة وبنايات حكومية كسكن مؤقت إلى حين تهيئة مخيم نظامي في مدينة الناصرية وتجهيز مخيم آخر هو الأكبر من نوعه في كربلاء، والذي سيعتمد على نظام الوحدات السكنية المتحركة (كرفانات).
بعيداً عن الأرقام والنسب وبحثاً عن الأثار الكبرى المترتبة على حالة النزوح فإن أستاذ مادة علم الاجتماع الدكتور خليل الشبيبي يؤكد أن زيادة “التخندق” الطائفي وفرز المناطق والمدن على أساسها هو التأثير الأكبر لموجات النزوح المستمرة، موضحاً أن حالة الانقسام الطائفي كانت هي المشهد الأبرز حين توجه الشيعي الى الجنوب واختار السني الاستقرار في محافظات ذات غالبية من مكونه وانتقل بعدها إلى الإقليم الكردي وكذلك الحال بالنسبة للأقليات.
”
السنة والمسيحيون وبعض الأقليات نزحوا إلى إقليم كردستان والشيعة اختاروا المحافظات الجنوبية
”
الشبيبي يلفت إلى أن مدن الاختلاط الطائفي والعرقي باتت شبه منقرضة في العراق باستثناء إقليم كردستان، وأن القرى المسيحية التي يسكنها أهلها منذ آلاف السنين أصبحت فارغة إلا من تواجد القطع العسكرية والمسلحين، والأمر ينطبق على مدن أخرى خلت من السكان تماماً كما هو الحال في أجزاء من الأنبار وصلاح الدين وديالى والمناطق المحيطة بالعاصمة بغداد.
ويشير الأكاديمي العراقي إلى أنه بالإمكان تلخيص المشكلة بأنها عبارة عن انعدام الثقة بين الجميع سواء كانت على مستوى مكونات العراق السكانية من جهة أو المكونات السكانية والأجهزة الحكومية من جهة أخرى، فالأيزيدي لم يعد يثق بجاره العربي، والمسيحي لا يأمن في مناطق الأغلبية المسلمة، والمواطنون السنة لا يثقون بالتشكيلات الأمنية والعسكرية ويرون فيها ميليشيات طائفية بحتة، والشيعي ينظر للسني على أنه إرهابي ومن أتباع (داعش) وجميع هذه القضايا تطورت بصورة كبيرة واختلطت بأعمال قتل وخطف وانتقام من جميع مكونات الطيف العراقي، مشيراً إلى أن الضربة الكبرى التي تلقاها العراق بعد الغزو الأميركي استهدفت نسيجه الاجتماعي الذي تضرر بشكل كبير جداً.
من هذه النقطة يبدأ الباحث والناشط في مخيم (بحركة) للنازحين أرسلان البرزنجي حديثه بأن أغلب الذين يلتقيهم هنا يبحثون عن اللجوء ولا يخططون للعودة إلى مناطقهم لأنهم لا يثقون بالأطراف المتحاربة فيها، مشيرا الى أن العديد من الحالات تريد الاستقرار بشكل دائم في إقليم كردستان أو تنتظر إكمال أوراقها الرسمية من أجل السفر إلى تركياً وتحقيق حلم الحصول على اللجوء في دولة أوروبية.
يتابع البرزنجي كجزء من عمله أكثر من 20 حالة في اليوم بينما يتجول بين الخيم التي تؤوي 650 عائلة ولا يكاد يسمع سوى أحاديث السفر واللجوء حتى من الأطفال وكبار السن الذين يتداولون أخبار اصدقائهم أو أقربائهم الذين نجحوا بالوصول إلى السويد واستراليا واميركا فيما بقيت أعداد كبيرة منهم في تركيا بانتظار مقابلة المسؤولين عن طلبات اللجوء.
ويقدم لنا البرزنجي حالة الفتى إيهاب قاسم البالغ من العمر 17 عاما والنازح مع عائلته من منطقة البياع في بغداد والذي يعتبره البعض مرجعاً في الطرق والأساليب التي يجب اتباعها من أجل الحصول على اللجوء، وكذلك القصص والروايات التي يجب على الراغب باللجوء حفظها وسردها أمام موظف الامم المتحدة المختص بالطلبات ويعرف أيضاً طرق تهريب عبر اليونان وتكلفة تأشيرة الدخول الى دول الاتحاد الاوربي وتفاصيل اخرى لا يستغني عنها أي راغب بالهرب من أرض الرافدين. –
عن العربي الجديد