لم يكن جبل حوران، أو كما يسمى في بعض المصادر جبل الدروز، الواقع في أقصى جنوب سوريا، مأهولا بأبناء الطائفة المعروفية قبل القرن الثامن عشر، لكنه ونتيجة تراخي قبضة العثمانيين على أقاليم بلاد الشام بسبب اندلاع الثورات الفلاحية في أكثر من مكان، غدا طوال قرنين من الزمان معقل التمرّد الأهم على الباب العالي، كما تحوّل هاجسا أقض مضجع الانتداب الفرنسي على مدى عشرين عاما، وسببا مباشرا في إنهاء حكم العقيد أديب الشيشكلي، أحد الضباط السنة الذين انقلبوا على الديموقراطية في حقبة الخمسينات من القرن العشرين.
يتكوّن دروز جبل حوران، الذي أصبح اسمه محافظة السويداء بعد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، من ثلاث مجموعات رئيسة تنسب إلى ثلاثة أقاليم شامية تمردت على العثمانيين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ففرّ معظم سكانها واستقروا في هذا المعقل الحصين العصي على الإخضاع.
المجموعة الأولى التي تنسب إلى جبل الشوف (الشوافنة) وصلت إلى جبل حوران في هجرتين كبريين الأولى بعد معركة عين دارة الشهيرة بين القيسية واليمانية عام 1711، والثانية بعد أحداث الحرب الأهلية بين المسيحيين والدروز في جبل لبنان عام 1860.
وتسمى المجموعة الثانية القادمة من الجليل الفلسطيني “الصفدية” وبدأ وصولها إلى جبل حوران مع توسّع الشيخ ظاهر العمر الزيداني (1695 – 1775) في أقاليم الجليل، من صفد إلى عكا، وتمرد دروز هذه المناطق عليه، فهادنهم في بداية أمره، ثم بطش بهم وهجّرهم بعدما ارتكب فيهم مذابح عدة أشهرها مذبحة طربيخا عام 1721.
أما الهجرة الجماعية الثالثة، فكانت من جبل السماق، أحد جبال محافظة إدلب الحالية، بعد العام 1810، وتسمى بـ”المجموعة الحلبية”، وهي الأقل من حيث العدد، ولكن الأهم من حيث الزعامة، إذ تحكم عائلة الأطرش، وهي إحدى العائلات الحلبية، الجبل منذ العام 1876 بعدما انتزعت الزعامة من أسرة حمدان الشوفية الأصل.
إفشال مشروع محمد علي
بعد سيطرة قوات إبراهيم باشا المصري (1789 – 1848) على بلاد الشام في 1831، أصدر الحاكم الجديد قرارا بالتجنيد الإجباري لسكان المدن والقرى، الأمر الذي دعا الجبليين من شمال بلاد الشام وجنوبها للثورة عليه، لكن الثورة الكبرى كانت في جبل حوران، وهي الثورة التي أنهكت القوات المصرية، وكبّدتها أكبر الخسائر، وأذنت بأفول نجم حكم أسرة محمد علي لبلاد الشام.
لدينا وصف أدبي رفيع كتبه شاهد العيان الديبلوماسي الروسي قسطنطين بازيلي، لخّص فيه وقائع هذه الثورة، وكيف ساهمت في إضعاف إبراهيم باشا وجيشه، وحطمت أسطورته التي هزت عرش سلاطين الأستانة، حيث يقول: “في عام 1837 طلبت الحكومة من دروز حوران اثنين وسبعين مجندا، واستدعي شيخهم الطاعن في السن إلى دمشق، وعبثا التمس إعفاء شعبه من التجنيد، فأهانت حاشية الباشا الشيخ بوقاحة، فنوى أن يثأر من الجنود المصريين ويجعلهم يدفعون غاليا لقاء الإهانة التي ألحقوها بلحيته. أعلن الشيخ استعداده لمساعدة الحكومة على جمع المجندين، لكنه طلب لهذا الغرض أن ترافقه أكبر فصيلة عسكرية ممكنة، وأرسل إبراهيم باشا معه إلى حوران أربعمئة من الخيالة غير النظاميين الذين استقبلوا هناك بالحفاوة والترحاب، وفي أول ليلة ذُبحوا جميعا، ولم ينج إلا رئيس الفصيلة الذي سمع وهو نائم أنين المشرفين على الموت، فتمكن من الفرار عبر النافذة وأبلغ الباشا في دمشق بما جرى، ثم صار الدروز يرحلون إلى منطقة اللجاة المنيعة”.
ويروي بازيلي وقائع المعارك الدامية في وعرة اللجاة البركانية التي كلفت قوات إبراهيم باشا أكثر من 15 ألفا من جيشه النظامي، وضابطا كبيرا برتبة باشا، وأربعة ضباط برتبة لواء، وستة عشر من قادة الأفواج والكتائب.
يكتب بازيلي كما لو أن ما يكتبه فصل من إحدى روايات الروائي الروسي الشهير ليف تولستوي: “طال أمد الحرب، وبأمر من محمد علي هرع مصطفى باشا حاكم كاندي إلى سوريا لنجدة إبراهيم باشا مع فوجَي مشاة، وثلاثة آلاف ألباني. إن الألبان الذين تربوا في حرب الأنصار في الرومللي، كانوا وحدهم القادرين على مقارعة الدروز، ولكنهم، وبعد عجزهم عن التغلب عليهم داخل اللجاة، قرر إبراهيم باشا محاصرة المنطقة من كل الجهات، وإماتة المتمردين جوعا، وهذا ما لم يتسنّ له. كانت فصائل خفيفة من الدروز المرتدين بزات المصريين المقتولين، تسير بنسق وتخدع الجيش رغم يقظته، وتستولي على مؤونته. عندها لجأ إبراهيم باشا إلى وسيلة أخرى: في إحدى حملاته داخل المنطقة الخطرة، ردم بالحجارة وبتفجيرات البارود النبع الوحيد لماء الحياة في كل المنطقة، ثم تقدّم تحت ستار المدفعية القوية إلى ضفة البرك وملأها بجثث الناس والخيل. كان ذلك في فصل الصيف الحار من عام 1838. أنتن الماء، ولكن الدروز لم يتوقفوا عن إطفاء ظمئهم ولم يعبأوا بطعم الماء النتن. ووجد إبراهيم باشا وسيلة لتسميم الماء، فألقى في تلك البرك عدة أباريق من الزئبق، فاستولى الرعب على الدروز وهم يرون الموت المفاجئ لأولئك الذين كانوا ما يزالون يشربون الماء من البرك المسمومة…”.
نهاية مدحت باشا
في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1842- 1918) تمرّد دروز جبل حوران على السلطنة العثمانية مرات عدة، أعنفها كانت في عهد الوالي الإصلاحي مدحت باشا (1822- 1884). وقد وثَّق الباشا في تقرير أرسله الى السلطان عبد الحميد ما جرى فكتب يقول: “في العام الماضي (1879) حدث في جبل الدروز تمرّد، واستفدت من هزيمة الدروز، فوضعت لتنظيم قضاء جبل الدروز في لواء حوران أصولا وقواعد، وعيّنت له قائمقام، ومجلسا بلديا، ومحكمة، وضبطيّة، وقطعت مرتبات بعض رؤساء الدروز، وخصصتها للذين عينوا مجددا من الموظّفين، وقد قدمت الدفتر المتعلّق بذلك مع المضبطة إلى الباب العالي بتاريخ 4 ذي الحجّة 96، ولم أتلقّ جوابا”.
لقد أخطأ مدحت باشا في حساباته حين قرّر استبدال الزعامات التقليدية للجبل بموظفين حكوميين قد لا يجيد أغلبهم العربية. وكان من الصعب على طائفة متماسكة، مثل الدروز، الثقة بالعثمانيين وقبول إصلاحات باشا طموح يريد تطبيق قوانين أحدث الدول الأوروبية على مجتمعات تقليدية مشرقية، والخضوع لتراتبية جديدة لا تعتمد على النفوذ الديني أو القبلي، فكان أن ثاروا ضده وأغلقوا الجبل في وجه جنوده وموظفيه، الأمر الذي دفعه للجوء إلى الحل العسكري، ولكن هذا الحل أنهكه، ولطخ سمعته الإصلاحية بالطين، وكان نذير شؤم عليه، إذ غادر مقعد الحكم في دمشق والجبل مشتعلا بالثورة، وظل ثائرا ضد العثمانيين حتى الحرب العالمية الأولى، حيث شكل الجبل ملاذا للثوار العرب الفارّين من وجه جمال باشا السفاح.
ثورة سلطان
لم يكن حظ الفرنسيين في جبل حوران بأفضل من حظ العثمانيين، إذ انطلقت شرارة الثورة السورية الكبرى ضدهم من قرية القريَّا، معقل سلطان باشا الأطرش أمير الجبل، والقائد العام للثورة الذي خطب خطبته الشهيرة في السابع من يوليو/تموز عام 1925، داعيا إلى حمل السلاح ضد الفرنسيين لطردهم من البلاد.
ومما قاله الباشا: “إلى السلاح، إلى السلاح يا أحفاد العرب الأمجاد. هذا يوم ينفع المجاهدين جهادهم، والعاملين في سبيل الحرية والاستقلال عملهم. هذا يوم انتباه الأمم والشعوب. فلننهض من رقادنا ولنبدّد ظلام التحكم الأجنبي عن سماء بلادنا. لقد مضى علينا عشرات السنين ونحن نجاهد في سبيل الحرية والاستقلال، فلنستأنف جهادنا المشروع بالسيف بعد أن سكت القلم، ولا يضيع حق وراءه مطالب”.
شهد الجبل بعد ذلك أشدّ المعارك ضد الفرنسيين، وكانت أعنفها “معركة المزرعة” التي كبّدت الفرنسيين أكبر الخسائر في تاريخ انتدابهم لسوريا، وشحنت السوريين بشحنة معنوية كبيرة أدّت إلى توسع رقعة الثورة ووصولها إلى قلب دمشق، وتكبيد الفرنسيين خسائر لم يتوقعوها، فكان أن انتقموا من عاصمة الأمويين شر انتقام، وقصفوها بالمدفعية ومسحوا أحياء تاريخية من الوجود.
حدّدت ثورة الدروز في جبل حوران مصير الانتداب الفرنسي لعقدين قادمين، وشكلت الإرهاص الأول لنهاية الانتداب الفرنسي لسوريا، وبقيت ذكرياتها غصة في حلوق جنرالات فرنسا الذين كانوا يتوقعون أن يكون انتدابهم لسوريا نزهة وليس حمام دم.
خطأ الشيشكلي
وكما حصل مع إبراهيم باشا ومدحت باشا والجنرال غورو، حين لم يأخذوا قوة التقاليد الاجتماعية في المجتمع الدرزي على محمل من الجد، قام العقيد أديب الشيشكلي باعتقال الناشط السياسي منصور الأطرش نجل سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى، الذي قاد التظاهرات الاحتجاجية في الجبل ضد التغييرات التي أدخلها العقيد على المناهج المدرسية.
ونتيجة استخدام الشيشكلي السلاح في قمع المتظاهرين المحتجّين على سياساته، ثار الجبل بكامله، وتحوّلت التظاهرات إلى مواجهات مسلحة مع عشرة آلاف جندي زج بهم العقيد لقمع حراك الجبل، في حين كانت الطائرات الحربية تقصف قرى الجبل وأحياء مدينة السويداء بالقنابل، مما أدّى إلى مقتل الكثير من المدنيين.
وبرّر الشيشكلي ممارسات جيشه ضد الجبل باكتشاف كميات كبيرة من السلاح، وارتهانه، أي جبل الدروز، لمخططات أجنبية، وكان من نتيجة ذلك إعلان حال الطوارئ في خمس محافظات سورية من أصل تسع هي دمشق، وحلب، والسويداء، وحمص، وحماه، واعتقل عددا بارزا من المعارضين لنظامه، منهم رشدي الكيخيا، وعدنان الأتاسي، وصبري العسلي، وأكرم الحوراني، وميشال عفلق، وإحسان الجابري، وحسان الأطرش، والأخير من زعماء الجبل حينها. ولم يطل الوقت على هذه الإجراءات حتى أعلنت حلب انقلابا عسكريا على العقيد الشيشكلي دفعه الى الاستقالة في 25 فبراير/شباط 1954، ومن ثم الفرار إلى بيروت ومنها إلى البرازيل، حيث اغتاله بعد عشر سنوات شاب من الجبل يدعى نواف غزالة.
تيسير خلف
المصدر: المجلة