الثقافتان/ أحمد بيضون

يميل المثقفون، حيث كانوا، إلى التعظيم من شأن الثقافة التي ينتجونها. وسرعان ما تبدو المواجهات الكبرى، من سياسية واجتماعية، حين يتناولونها، وكأنها أصداء قريبة لأنواع الخلاف الناشب بين نِحَلِهم أو جماعاتهم. وهي نِحَلٌ أو جماعات كثيراً ما يتصدّر كلّا منها شخص واحد تطلق عليه صفة «المفكّر». ويكون هذا الشخص في قيد الحياة عادةً أو يكون معاصراً، في الأقلّ، تابع تفاصيلَ مساره مستلهموه والمجادلون فيه. ولكن يسعه أيضاً أن يجرّ في ركابه مواريث متشعّبةً قد يرقى بعضها، في الحالة العربية (وهي شاغلنا هنا)، إلى ما يدعى عصر «النهضة» وقد يوغل بعضها الآخر في مدارس التراث الإسلامي بفروعه ومذاهبه المختلفة. فيفضي البحث في «فكر» ه إلى البحث في القرآن والحديث، في المعتزلة والأشاعرة، في التصوّف والسلفية، في أهل الكتاب وأحكامهم، إلخ. وقد يدرج ذلك كله في مناظير حديثة أو معاصرة فينقسم النقّاد بين ليبراليين وماركسيين أو بين ديمقراطيين وتحريريين أو بين أنصارٍ للديمقراطية السياسية ودعاةٍ للديمقراطية الاجتماعية، إلخ.
وفي كلّ حال، تأخذ وقائع كبرى، من قبيل حركات التغيير ومساقات التنازع التي شهدتها مجتمعات عربية عديدة في السنوات الأربع الأخيرة تبدو، في كلام المحللين من ذوي الألفة لدوائر «الفكر» العليا هذه، وكأنما كان يسعها أن تكون غير ما كانت لو ان الموازين اختلفت في دائرة الأفكار بين حفنة يختارها المحلّل من بين المتأملين في الدين والدولة والمجتمع والتاريخ وفي الثقافة أيضاً. ويتفق كثيراً أن تكون هذه الحفنة قد انتشرت في مدى شاسع من الأرض يتجاوز المجال الموصوف بالعربي أحياناً وتَوَزّع نتاجها على قرن أو قرنين وعلى أبواب من الإنتاج الثقافي مختلفة… ولكن يتصدّرها ما يسمّى الفكر. وهذا نوع لا يمكن مطابقته، على الأغلب، والنوع الفلسفي بتعريفه المضبوط لأغراضه ومناهجه ولا هو يطابق أيضاً أيّاً من علوم الإنسان والمجتمع، بما فيها علم السياسة وعلم الاجتماع بنماذجهما المكرّسة.
وعلى التعميم، يقف المتأمّلون في المسار الفعلي للحوادث حيارى إزاء الحركات الكبرى التي يفلح في إطلاقها «مفكّرون» من قبيل روح الله الخميني أو سيد قطب ممّن ينتمون إلى نهجٍ يسعنا أن ننعته بالتأصيل أو المطابقة أي بردّ الخيار المعتمد في مسألة من المسائل إلى غير القائل المعاصر به وبقصر مهمّة هذا الأخير على إثبات الأمانة لكلامٍ أو لشَرْعٍ وُجد قبله. وهو ما يصحّ أن يوصف به أصحاب المنحى القوميّ أيضاً إذ هم نسخٌ باهتة لنماذج أوروبية معروفة وهم يزعمون، إلى ذلك، أنهم ساعون في استرداد حالة أصلية ضاربة في القدم هي حالة الأمة الواحدة ذات الماضي الأثيل. هذا فيما يبقى المجدّدون المعاصرون الذين يقف نقّادنا عند مناظراتهم محبوسين في دائرة ضيقة من المهتمين فلا يُرى لفكرهم، في ما يتعدّى أوهام بعض المعلـّقين أو أمانيهم، أثرٌ يعتدّ به في حركات الجماهير أو في دوائر القرار.
والواقع أن القول بالمطابقة أو بالاستعادة، على كونه لا يصمد لأدنى تفحّص، إنما هو سرّ قوّة أولئك وأن القول بالتجديد هو سرّ الضعف الظاهر على هؤلاء. أي أن الغلبة أيسر، على الإجمال، للموقف «الرجعي» (بمعنى الكلمة الحرفي) منها للتوجّه «التقدّمي» (بالمعنى الحرفي أيضاً). ويحتاج التماس السبب في هذه الحال المؤسفة إلى التمييز بين معنيين للثقافة. الأوّل، وهو أضيق الاثنين، يجعل من الثقافة «ما ينتجه المثقّفون». والثاني، وهو الأوسع، يرى فيها «جملة الأنظمة الرمزية التي تنشئها أو ترثها وتنميها أو تتداولها وتعرّف بها جماعة من الجماعات البشرية». وتكاد المعارف والآداب والفنون أن تستنفد ماصدقَ التعريفِ الأوّل. وأما الثاني فيشتمل، مثالاً لا حصراً، على الأعراف والتقاليد وعلى قيم السلوك وعلى التراث الشفوي بسائر فروعه…
وما يفوت المعوّلين في التغيير الاجتماعي على المناظرات بين المفكّرين أن أثر الثقافة «الضيقة» في الثقافة «الواسعة» تكون مسالكه ضيقة في الغالب ويبقى ضعيفاً، عادةً، ما لم تواته محرّضات لا يمكن ردّها إلى قوّة الفكر ونفاذه، في ذاته، بل هي تكون خارجةً عن دائرته، قادرةً على جعله يصدع بأوامرها ونواهيها لا العكس. وفي العادة، تتّخذ هذه المحرّضات لنفسها مراكب من الثقافة الواسعة بحيث تبدو هذه الأخيرة، في الغالب من الحالات، أقرب إلى التأثير في الضيقة منها إلى التأثّر بها. فعلى الإجمال، لا ينشئ المثقفون ثقافة مجتمعهم بل يجدونها حاصلة وينشأون فيها أوّلاً ولو انهم قد يجدون لأنفسهم منافذ إلى خارج حدودها. وإنما يتراوح سعي المثقفين ما بين تمكين الثقافة الواسعة وتغييرها. ويفترض أن يلقى السعي إلى التغيير مقاومة متنوعة المصادر، يمدّها الخوف الغريزي من الانهيار الكلّي للمجتمع بالطاقة، وإن يكن التغيير حاجةً تستشعرها فئاتٌ أو أجنحة من المجتمع. أهمّ من ذلك أن هذا السعي تنتصب في وجهه جدرانٌ قريبة إن لم يفلح الفكر «الجديد» في الاندراج في مسارب مؤسسية ذات مصبّات معتبرة السعة. إذ لا غلبة، في هذا العصر، لفكرٍ لا يتّخذ صيغاً متلفزة أو مذاعة ولا تطير به الجرائد ولا تنشره مواقع ذاتُ حظوةٍ على الشبكة ليكتسب من هذا كلّه انتظاماً ورحابة في حضوره الاجتماعي… وهذا ناهيك بأن يجد مستقرّاً في عقول المربّين بحيث يتمكن من التغلغل في المدارس وفي البيوت ويداخل المبادلات اليومية وبأن يتمكن من الانتقال أيضاً من القالب «الفكري» الضيّق النفوذ إلى قوالب الآداب والفنون على اختلافها…
فإن لم يتيسّر للفكر «الجديد» شيء معتبرٌ من ذلك كلّه لم يُستبعد أن يفاجأ أهل الثقافة الضيقة بانبثاقٍ غير محسوب يجتاح مجالهم لتيّار يتّخذ لنفسه مجرىً من المجاري المتاحة في الثقافة الواسعة بحيث يبدو أقرب بكثير إلى تكاوينها منه إلى هياكل الثقافة الضيقة. هذا النوع من الغلبة يبدو مبدّداً لجهود مثقفين محترفين بذلوا وسعهم في صوغ ضروب من التشخيص المحكم أو الطامح إلى الإحكام وفي وضع التوصيات والمطالب والتوقّعات بناءً على ذلك. يضرب التيّار الطالع من الثقافة الواسعة عرض الحائط بهذا كلّه مغلّباً ما كان المتصدّرون من «مفكّري» الثقافة الضيقة ومعهم جمهورهم قد حسبوا أنهم أطاحوه أو أنهم شقّوا، في الأقلّ، أوسع الجادّات لتجاوزه.
لا غنى عن التنظير وما يليه أو يواكبه من صنوف المجادلة بين المثقفين وما يصحب ذلك من منتجات الثقافة الضيقة على اختلافها. ولكن حلقة الجدال بين المفكّرين أو بين مريديهم كثيراً ما تكون مفرغة، بمعنى الكلمة الحرفي. وكثيراً ما يكون جارياً إنتاج فكر الساعة في زاوية قصية من ميدان الصراع الفكري الظاهر بل أيضاً في دائرة لا يشتمل عليها هذا الميدان ويزدري أقطابه وآهلوه لغتها ومقولاتها بحيث قد لا يلقون إليها بالاً إلى أن يبغتهم طوفانها.
عليه يحتاج التقدير الرشيد لأدوار المذاهب أو التوجّهات الفكرية وشروط تأثيرها الاجتماعي إلى درس على حدّة. ولهذا الدرس أن يفيد من مناهج علم اجتماع الثقافة، على الأخص، وله أن يستلهم مناهج أخرى. ويبقى، في كلّ حال، أن اجتنابُ الخيبة يقتضي ألا يستعجل مفكّرو «الثقافة الضيقة» نسبةَ الكلمة المسموعة لأنفسهم في ساحات التظاهر وميادين القتال أو تَعَلُّق المآلِ المنتظر لمواجهةٍ تاريخية كبرى بـ»إفحام» واحدٍ منهم خصمه على صفحات كتابٍ أو جريدة.

عن القدس العربي