ضجة كبيرة، أثيرت بعد تصريح وزير الدفاع البريطاني بن والاس، من أن المملكة المتحدة وحلفاءها ليسوا خدمة “أمازون” لتوصيل الأسلحة إلى أوكرانيا، وإنه من الحكمة أن تُظهر كييف “بعض الامتنان”.
المشكلة في هذه الكلمات وما تبعها، أنها قيلت علنا. عادة ما ترمى هذه العبارات في الغرف المغلقة لتبقى حبيسة التاريخ وخزائن الأسرار. لا تقال بين الأعداء، بل بين الحلفاء؛ حيث يعتقد كل طرف أنه “ضرورة استراتيجية” للآخر في الحسابات الجيوسياسية.
لا بأس من الإشارة إلى مثال حيّ يتجدد عبر العقود والسنوات بطرق ومستويات مختلفة: العلاقة بين دمشق وطهران. تفيد المعلومات الحارة، أن طهران قررت “معاقبة” حليفها في دمشق. توقفت عن إرسال إمدادات النفط الحيوية للمدنيين والعسكر، إلى الساحل السوري. شحنات النفط التي كانت تتدفق عبر الأزمان والحقبات بملايين الأطنان، قررت الحكومة الإيرانية وقف إرسالها. تدخل الرئيس السوري بشار الأسد لدى “المرشد” علي خامنئي. تدخل وزير الخارجية فيصل المقداد مع نظيره حسين أمير عبداللهيان. تدخل السفير السوري في طهران لدى أصحاب القرار. كانت طهران تمطر ممثلي دمشق بالوعود، لكن ناقلات النفط لا تصل إلى الموانئ السورية. الكلمات المعسولة تمطر الاجتماعات. الذهب الأسود لا يعبر البحار.
جاءت كلمة السر عندما قال مسؤول إيراني للأسد: “سيدي الرئيس، نحن لسنا محطة بنزين”، تذهب إليها السيارات لملء خزاناتها بالوقود وتذهب.
بين الأحرف والأسطر، هناك مطالب إيرانية واضحة من سوريا: السلطات الإيرانية وقفت عسكريا وسياسيا وأمنيا وماليا إلى جانب حليفها في دمشق منذ 2011. ساهمت في “إنقاذ النظام”. المطلوب الآن، أولا، أن لا تضحي دمشق بعلاقاتها مع إيران لصالح دول عربية تريد التطبيع مع دمشق، وأن لا تنحاز دمشق إلى موسكو، وأن تقدم الحكومة السورية تنازلات سيادية تعويضا عن “التضحيات” الكبيرة في سوريا.
إيران التي زار رئيسها إبراهيم رئيسي دمشق، تعرف خلفيات المبادرات العربية نحو دمشق. تعرف قناعة المسؤولين السوريين، أن سوريا مهمة استراتيجيا لإيران كما الأخيرة مهمة للأولى، ومهمة استراتيجيا لموسكو كما الأخيرة مهمة لدمشق. باختصار: مصالح متبادلة.
لكن ماذا تريد إيران؟ من المؤكد، أن طهران لم تكن مرتاحة لقرار دمشق بتوقيع اتفاق مع شركة عربية لإدارة واستثمار مطار دمشق وميناء اللاذقية. الأول والثاني، كانا بوابتين لتدفق السلاح والذخيرة إلى وكلاء إيران وتنظيماتها في سوريا ولبنان، خصوصا إذا كان الهدف الحقيقي لهذه المشاريع تقديم “بديل عربي” للنفوذ الإيراني.
عمليا، تشترط طهران- كي ترسل ناقلات النفط إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط- اتفاقات ومذكرات تفاهم، تتضمن تنازلات سيادية طويلة الأمد، بينها معاملة الإيرانيين معاملة السوريين فيما يتعلق بالملكية والدراسة والصحة، وأن تحصل على “ميناء صغير” على الساحل السوري في البحر المتوسط، وبعض المشاريع الاستراتيجية في النفط والغاز والزراعة والصناعة، واتفاقات عسكرية تضع الجيش السوري في مرمى النفوذ الإيراني.
ما أشبه اليوم بالبارحة. بالفعل التاريخ يعيد إنتاج نفسه بطرق مختلفة. تشير وثائق سرية بين دمشق وطهران، اطلعت عليها، أنه في خضم الحرب العراقية– الإيرانية بين 1980 و1988، طلب مسؤولون إيرانيون من الرئيس السوري حافظ الأسد، الذي لم يقف ضد طهران في المواجهة، تقديم صواريخ لدعمهم في الحرب ضد العراق.
وقتذاك، اتخذ الأسد قرارا وسطيا. لم يستطع تحمل عبء تقديم صواريخه “السوفياتية” إلى طهران، واقترح أن يتم ذلك عبر الرئيس معمر القذافي، الأمر الذي يحتاج موافقة البلد المصدر، أي الاتحاد السوفياتي.
كي تضغط طهران على دمشق لإيصال الصواريخ من ليبيا أو تشيكوسلوفاكيا (قبل انقسامها مخمليا) أوقفت إيران شحنات النفط إلى سوريا التي لم يكن نفطها مكتشفا ومستثمرا وقتذاك. وجاء في محضر سري للقاء السفير السوري في طهران مع محسن رفيق دوست وزير “حرس الثورة” في 19 أكتوبر/تشرين الأول 1985: “لقد وعد السيد الرئيس (حافظ الأسد) والسيد عبدالحليم خدام (نائب الرئيس) حجة الإسلام (علي) رفسنجاني بتقديم المساعدات إلى الحرس الثوري، لكن المسؤولين لديكم لم ينفذوا وعودهم. لو كانت سوريا وليبيا تنفذان ما وعدنا به لم تكن هناك مشكلة تصدير النفط قائمة ولم تكن هناك أي صعوبة على الإطلاق”. وزاد: “الحرب (مع العراق) دخلت مرحلة الحسم. ما نفع الصواريخ إذا بقيت في المستودعات. اتفقنا مع تشيكوسلوفاكيا على شراء مئة صاروخ أرض–أرض من طريق سوريا، هل بحث السيد الرئيس حافظ الأسد هذا الموضوع المهم جدا والمصيري مع المسؤولين التشيك؟ لماذا لم يبلغنا إخواننا السوريون عن نتائج هذا الموضوع؟”.
رد السفير السوري: “ما يعد به السيد الرئيس يتحقق… علمنا أنكم طلبتم أسلحة من بلغاريا وأن بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا أرسلتا طلبا إلى موسكو للموافقة”، فعلق وزير “حرس الثورة” بالقول: “تستطيعون الضغط على الاتحاد السوفياتي لأنه في حاجة إليكم ولا يستطيع الإستغناء عنكم وعن علاقات عمرها 20 سنة… إلا إذا كان بعض المسؤولين عندكم لا يريدون مساعدتنا ويتباطأون في تنفيذ قرارات السيد الرئيس. نحن نعرف كل شيء عن سوريا”. يختم الوزير الإيراني: “إذا أمنتم للحرس ما طلبناه، أستطيع متابعة موضوع (إرسال شحنات) النفط”.
بالفعل، التفاوض الصعب لا يخص الخصوم فقط. حافة الهاوية لا يصل إليها المتحاربون فقط. إدارة العلاقات مع الحلفاء لا تقل تعقيدا عما هي بين الأعداء. تتطلب الكثير من المقايضات والحسابات. بين الظروف والحاجات المحلية والحسابات الجيوسياسية والشعور المتبادل بين أهمية كل منهما للآخر.
دعك من البيانات. دعك من الكلمات المنمّقة. هذا ما يقال في الغرف المغلقة بين الحلفاء في سوريا وأوكرانيا… والكثير من الملفات.
إبراهيم حميدي
المصدر: الشرق الأوسط