الفيلم البريطاني «المطلوب رقم واحد»: أجهزة المخابرات الغربية والمسلمون: تنميط التّهم حتى تلفيقها

شاهدت الفيلم الذي يمكن ترجمة عنوانه إلى «المطلوب رقم 1»، لسببيْن أساسييْن: أولهما حرصي على مشاهدة أفلام يشارك فيها الممثل الأمريكي فيليب سيمور هوفمان، لقدرته على تمييز الشخصية التي يؤديها عن محيطها فتترك أثرها بمعزل عن الفيلم، ولان فيلماً يشارك فيه هوفمان سيكون على الأرجح، وبمعزل عن الشخصية التي يؤديها، ممتعاً وجيداً. السبب الثاني هو ان الفيلم يحكي عمّا صار ممكناً تسميته «الإسلاموفوبيا»، فأردت معرفة المقاربة، هذه المرّة، لهذه الصرعة الغربية.
وللسبب الأخير تحديداً، وللكيفية التي طرح بها الفيلم هذه الفكرة، بأسلوب منتقد لأساليب أجهزة المخابرات الغربية بشكل عام والأمريكية تحديداً في التعامل مع المجتمعات المسلمة في بلادها، عدت بعد الفيلم إلى الانترنت باحثاً عن مراجعات عن الفيلم في الصحافة الأمريكية، لأجد ان معظمها ركّز على هوفمان وبراعته. لكن المراجعة في «نيويورك تايمز» لم تخف انزعاجها من التسريحة «الهتلرية» لموظفة المخابرات الأمريكية في الفيلم، مارثا سوليفان. أما «فاينانشال تايمز» فانتقدت ضمن مراجعة مقتضبة الفيلم بشكل إيديولوجي (لم يسعف الفيلم مشاركة هوفمان) بمعنى رفضه مسبقاً لأسباب خارجة عن المجال المعني، أي السينمائي هنا، فنقرأ مثلاً ان «كوربين (المخرج) هو مصوّر فوتوغرافي معروف، بالتالي يمكن ان يرضي غروره بإصدار أوامر إلى خادمة، لكني انصحه بان يترك الاختصاصات لأهلها، وان يركض إلى التلال (ليصوّرها)».
كان هذا مقطعاً من تعليق قصير على الفيلم، وبمشاهدة الفيلم يمكن توقّع آراء كهذه في الصحافة الأمريكية الأقرب للدولة من الناحية المؤسساتية. فـ «الأمن القومي الأمريكي» هي العبارة السحرية في تلك البلاد والتي يمكن ان تألّب المجتمع الأمريكي، «الأبيض تحديداً ورؤوس الأموال» على أي «مهدّد» لهذا الأمن، والذي غالباً ما يكون أجنبياً، ونحن نحكي هنا عن أجنبي مسلم، وعن أحداث لحقبة ما بعد 11/9 في أمريكا. ثم، كيف لمخرج هولندي ان ينتقد في فيلم بريطاني أساليب الولايات المتحّدة (وأوروبا) في حماية أمنها القومي!
بدأت العروض التجارية للفيلم في أوروبا قبل أيام، وهو الفيلم الأخير الذي قام ببطولته فيليب هوفمان قبل موته انتحاراً في فبراير/شباط من العالم الحالي، وهو من إخراج الهولندي انطون كوربين، المعروف أساساً كمصوّر فوتوغرافي، ما يمكن تلمّسه في جمالية بعض اللقطات الثابتة في الفيلم، وفي مشاهد الفيلم وأجوائه بالمجمل.
يروي «المطلوب رقم 1» المأخوذ عن رواية للبريطاني جون لو كاري، قصّة عيسى كاربوف، لاجئ شيشاني مسلم تم سجنه وتعذيبه مؤخراً في السجون الروسية حيث ما تزال آثار التعذيب واضحة على جسده حين أظهرها كدليل لمحامية يسارية وعاملة في مؤسسة اجتماعية، تقوم بدورها الممثلة الكندية راشيل ان ماكدامز، والتي تصرّ على مساعدته وان تطلّب ذلك تعاونها الساذج مع جهاز مخابرات وتجسّس صغير في هامبرغ، يرأسه غنتر باكمان (هوفمان).
ضمن أجواء ما بعد 11/9 وانتشار هوس «الإسلاموفوبيا» لدى أجهزة المخابرات قبل غيرها، وصل كاربوف مهاجراً غير شرعي إلى هامبرغ، وهي المدينة التي تم سابقاً التخطيط فيها لأحداث سبتمبر/ايلول. ومن الدقائق الأولى نجد مشهداً ساخراً من الموقف المسبق تجاه المسلمين في أوروبا، بل ساخراً من تناول هؤلاء المسلمين سينمائياً: كاربوف بملابسه المتسخة ولحيته المشعثة وقبّعته الحاجبة لمعظم وجهه، يراقب سيّدة من بعيد، يتلصص شبه متخفٍّ، ومع موسيقى تصويرية متصاعدة، يتقدّم نحو السيدة الحاملة أغراضاً، من الخلف، الموسيقى تتصاعد وتتصاعد، يسرع في اقترابه، فتتوقف الصورة والموسيقى فجأة ليجد المشاهد نفسه في مشهد آخر. في وقت كان التوقع المسبق والنمطي الهوليوودي لمشهد كهذا هو اعتداؤه على السيدة وسرقة أغراضها والهرب بها، عرفنا لاحقاً انه ساعدها في حمل الأغراض إلى بيتها فآوته وخُصّص له مكان للمبيت، وذهب ابنها للبحث عن المحامية لمساعدته في تقديم طلب لجوء في هامبرغ.
جهاز المخابرات الصغير يعرف بأمره، لكن كاربوف لم يكن صيدهم، بل مجرّد طعم يريدون به الوصول إلى شخصيّة عامة مسلمة غنيّة ومعروفة في هامبرغ هو الدكتور فيصل عبدالله، لكن كاربوف كان هدف جهاز المخابرات الألماني والأمريكي في المدينة. استطاع غنتر، رئيس الجهاز المخابراتي التجسّسي الصغير، ابتزاز المحامية وإجبارها على ان تعمل معهم لإقناع كاربوف للعمل معهم دون ان يدري، بل استطاع إقناع، ولا نعرف إساليب الإقناع، ابن فيصل عبدالله للتعاون معهم، مقنعاً المحامية (دون ان تملك خياراً آخر) بان ذلك في صالح الحياة الجديدة لكاربوف في ألمانيا، ومقنعاً الابن بان ذلك في صالح والده. أما الغاية فكانت تلفيق تهم لهذه الشخصية العامة التي يلاحقها غنتر دون ان يجد أدلّة على افتراضاته بانها تساعد في تمويل جماعات إرهابية عبر جمعيّات خيرية، فاستغفلوها ولفّقوا لها تهمة أودت بها أخيراً.
النتيجة كانت كارثية على فيصل عبدالله، وعلى الشخصية المحورية في الفيلم، عيسى كاربوف، الذي أتى إلى ألمانيا لاجئاً، كشيشاني، من سجون روسياوتعذيبها، ليجد نفسه طعماً ثمّ ضحيّة لأجهزة مخابرات ألمانية وأمريكية، وهذه الأخيرة كانت حاضرة خلال الفيلم تزاحم الجهاز الألماني الصغير (بل توقع به) في سبيل الوصول إلى الطعميْن، اللاجئ الشيشاني والشخصية العامة، وسنعرف لاحقاً انها (CIA) المسبب الرئيسي لما سينتهي عليه الفيلم، ولمصائر الطعميْن، وانها المتحكّمة بلعبة المخابرات هناك.
في الفيلم يعرف المشاهد ان هنالك تهماً جاهزة ومسبقة تتناول المسلمين المتديّنين (وان باعتدال كفيصل عبدالله) في أوروبا وأمريكا، فهو هنا ضحيّة أجهزة المخابرات وتلاعباتها وتضارب مصالحها ومهامها، ما قد يصل أخيراً إلى تلفيق تهم ان تطلّب أمر الاعتقال ذلك. ولهذه الأسباب لم يعجب الفيلم مجمل الصحافة الأمريكية، ولن يعجب حتماً الحكومات الأمريكية والأوروبية، لكنه يطرح افتراضاً آخر، غير ما يروّج له التيار السائد في الإعلام الغربي، وهو إمكانية ان لـ «الإسلاموفوبيا» مبرّرات مبالغ بها، وضحايا لا فكرة لهم عمّا يتم تلفيقه لإثبات تهم جاهزة ونمطية عليهم تندرج ضمن مبرّرات حماية الأمن القومي من هؤلاء الأجانب أولاً، المسلمون ثانياً، المتدينون ثالثاً، الناجحون اجتماعياً رابعاً.

سليم البيك/ عن القدس العربي