اهتمام السوريين بالانتخابات الرئاسية التركية، أكثر من غيرهم في الإقليم، مفهوم. فتركيا دولة جارة تفصلها عن سوريا حدود بحوالي ألف كيلومتر. دولة فيها نحو أربعة ملايين لاجئ سوري. دولة يقيم جيشها في الشمال السوري وينتشر في جيوب تضم أربعة ملايين سوري، نصفهم من النازحين.
لكن هذا الاهتمام السوري، ليس واحدا ولا موحدا؛ فالرئاسيات التركية مناسبة جديدة لتمظهر الانقسام؛ السوريون كانوا منقسمين في “اقتراعهم” التركي، كما هو حال التشظي السوري المتعمق خلال العقد الأخير.
رجب طيب أردوغان، هو الرئيس الثالث عشر. أردوغان سلّم أردوغان مفتاح القصر. انتقال سلس من المئوية الأولى إلى الثانية من عمر الجمهورية. هذا أمر واقع، لا بد أن يتعايش معه السوريون، على اختلاف مشاربهم، في السنوات الخمس المقبلة. هنا يمكن الحديث عن ثلاثة اتجاهات سورية فيها الكثير من الأسئلة والترقب والقليل من الأجوبة والسكينة:
أولا، الموقف في دمشق. معروف أن الرئيس فلاديمير بوتين، ضغط على الرئيس بشار الأسد كثيرا كي يعقد قمة ثلاثية سورية- تركية– روسية (بمشاركة إيرانية أيضا). هدف “القيصر”، كان تجميع أوراق لصديقه “السلطان” كي يمدد إقامته في القصر. الأسد رفض هذا اللقاء قبل الانسحاب العسكري التركي من شمال سوريا، أو التعهد بالانسحاب، أو وضع جدول زمني بالانسحاب. لكن السبب الحقيقي لرفض الأسد، أنه لم يكن يريد دعم خصمه أردوغان كي يفوز بولاية جديدة. واقع الحال، أنه كان يراهن على المنافس كمال كليشدار أوغلو، ذي الصلة والتحالف مع دمشق.
تحت ضغط بوتين وخامنئي، وافق الأسد على إيفاد وزير خارجيته فيصل المقداد للقاء نظيره التركي مولود جاويش أوغلو في موسكو. عمليا، انتقل التطبيع السوري– التركي من المسار الأمني إلى المسار السياسي، دون/قبل الانسحاب أو التعهد بالانسحاب. هذه هدية الأسد لبوتين.
ماذا الآن مع الرئيس التركي الثالث عشر؟ أغلب الظن أن روسيا وإيران ستضغطان لتعظيم التقارب السوري- التركي. لكن الفرق أن أردوغان ليس تحت ضغط الوقت وصندوق الاقتراع. ألم يقل جاويش أوغلو قبل أيام، إن الوجود العسكري التركي سيبقى إلى حين إزالة التهديد الإرهابي؟ هناك واقع جديد، أردوغان موجود لسنوات. الأسد موجود لسنوات. كلاهما في حاجة الى بوتين. السؤال كيف سيتعاملان مع الواقع الجديد. جزء من الجواب عند بوتين إذا سمحت له حرب أوكرانيا ببعض الوقت للتفكير في الشأن السوري.
ثانيا، الموقف في القامشلي. أيضا، كان الرهان الكردي السوري على خروج “السلطان العثماني” من القصر. لم يكن رهانا وحسب، بل كانت قناعة بأن أردوغان ذاهب، وخصمه حليف الأكراد والعلويين قادم.
إذا كانت هناك خيبة في دمشق، فإن القلق هو السائد في القامشلي. يشعر أردوغان، الرئيس التركي الثالث عشر، بأن لديه تفويضا بـ”محاربة الإرهاب” ومقارعة “وحدات حماية الشعب” الكردية، الظل السوري لـ”حزب العمال الكردستاني”، وحليفة “الوحدات” أي القوات الأميركية، في شمال شرقي سوريا.
هذا أولا. ثانيا، أميركا المقيمة شرق الفرات السوري، ترى أن أردوغان أمر واقع في السنوات المقبلة. هو جزء من المعادلة التي تخص العلاقة مع روسيا، و”حلف شمال الأطلسي” والحرب في أوكرانيا.
بين السيناريوهات المحتملة، أن يكون أردوغان حرا في التحرك عسكريا شرق الفرات والضغط على حلفاء أميركا من الأكراد. أيضا، ضغط روسي لتفاهم سوري– تركي ضد حلفاء أميركا. الحديث هنا عن “قوات سوريا الديمقراطية”.
ثالثا، الموقف في إدلب من أهلها ونازحيها ولاجئيها. رد الفعل الأولي لكثير من اللاجئين السوريين في تركيا بعد إعلان فوز أردوغان، لقد تنفسوا الصعداء. خطاب المعارضة التركية بث الخوف والقلق وسط نحو أربعة ملايين سوري في تركيا ومثلهم في شمال سوريا. الانطباع كان أن فوز كليشدار أوغلو يعني: الضغط على اللاجئين للعودة، والتعاون مع دمشق على حساب المعارضة.
فوز أردوغان، قوبل باحتفالات من معارضين ولاجئين. الأيام وحدها ستثبت ما إذا كانوا محقين في مشاعرهم وحساباتهم بين معادلات عربية وإقليمية ودولية، فيها كثير من الصفقات والحسابات الجيوسياسية. بين الخطط سيكون تعاون تركي عربي لبناء مشاريع سكنية لمناطق النفوذ التركي في الشمال السوري كي يعود السوريون “بشكل طوعي وآمن” إلى بلادهم.
المنعكسات السورية لفوز أردوغان كثيرة. أغلب الظن أنه سيسرع قطار التطبيع العربي مع دمشق، الذي اكتسب سرعة جديدة بعد عودة دمشق إلى الجامعة العربية وحضور الأسد القمة العربية في جدة. تركيا التي تتدخل في مسارح عربية كثيرة من ليبيا والعراق وسوريا وغيرها، يرى البعض أن نقطة وقف التمدد أو “التوغل”، هي في سوريا، والشريك في هذه المعادلة، هو دمشق أو تعزيز “الدولة السورية” وتعزيز الدور العربي في دمشق.
ما يعزز هذا الاتجاه، انكفاء أردوغان عن سياساته التطبيعية في الإقليم بعد فوزه بالانتخابات. وقتذاك ستكون سوريا مختبرا لكثير من التحولات والمفاجآت والصفقات.