يضع إسماعيل، ابن قرية علي شار في ريف محافظة حلب المنظار على عينيه، ليشير بيديه إلى منزل يبعد عنه نحو 200 متر “خط نار”. “هذا منزلي وتلك الشجرة زرعتها قبل أن أبنيه”، يقول الرجل الكردي السوري الذي حمل زوجته وأطفاله إلى قرية “آليزر” في الجزء الكردي من تركيا، ليخطط للعودة إلى القتال في بلاده.
بالقرب من منزل إسماعيل، وعبر المنظار نفسه، يمكن رؤية عناصر من “داعش” يروحون ويجيئون في المكان بعدما احتلوا القرية يوم الجمعة الماضي. يقول إسماعيل بقهر “حتى أنهم يتفيأون تحت شجرتي”.
تقع قرية علي شار شرقي منطقة عين العرب المفتوحة على الحدود التركية، والتي يسميها أكراد المنطقة “كوباني”. سقطت علي شار بعد مواجهات عنيفة مع قوات “وحدات حماية الشعب” الكردية، لتنضمّ إلى نحو 120 قرية وبلدة سيطرت عليها “داعش” في شريط منطقة عين العرب الملاصق لعفرين ومحافظة الحسكة، وفق ما أكد الناطق الرسمي باسم “وحدات حماية الشعب” ريدور خليل لـ”السفير”.
وتضم عين العرب نحو 380 قرية وبلدة، وهي أصغر من قرى وبلدات الحسكة بالطبع، فيما تبلغ مساحتها 3850 كيلومتراً مربعاً، وهي مهددة أيضاً من قبل “داعش” التي تركز قواتها حالياً ما بين عفرين وعين العرب من جهة وبين عين العرب والحسكة من جهة ثانية.
الحدود التركية السورية لم تعد كما كانت عليه قبل 15 يوماً، تاريخ بدء هجوم “داعش” على هذا الجزء من ريف حلب والحسكة، وتمكنه من قطع أوصال جزء من المنطقة، وذلك بعد سيطرته على مناطق “الجيش الحر” و”جبهة النصرة”.
يشير خليل إلى أن اشتباكات عنيفة جرت بالأمس في محيط كوباني وخاصة في الجبهة الجنوبية باتجاه صرين في مقابل جسر قلقوزات الذي يربط الحسكة بمحافظة حلب.
ومع احتدام المواجهات، يبدو الشريط الحدودي التركي السوري وكأنه خارج تركيا التي تستعد لنيل تفويض من برلمانها يسمح لها بـ”عمل عسكري في العراق وسوريا يشمل كل التهديدات والمخاطر المحتملة”، وفق نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينج.
ويستبعد خليل أن تنال تركيا هذا التفويض أو على الأرجح “لن يقبل العالم به لأنه يشكل احتلالاً لسوريا”، وفق ما قال. والحدود نفسها تحوّلت، في ظل التضييق التركي الكبير على حركة النازحين من “عين العرب” ومحيطها إلى تجمعات لعشرات الآلاف من الهاربين من الجحيم “الداعشي” والعالقين في العراء، وفق ما يؤكده خليل نفسه.
ومع ذلك، تعج المناطق الكردية في تركيا بآلاف النازحين السوريين والأكراد القادمين من سوريا تهريباً وتسللاً وعبر العراق. ومعهم تغلي المنطقة الحدودية بالمتطوّعين الأكراد رجالاً ونساء في صفوف “وحدات حماية الشعب”. قصص الأكراد الأيزيديين والمجازر والانتهاكات التي مورست بحقهم، ووصلت إلى بيع نسائهم في سوق النخاسة واغتصاب بعضهن وممارسة التطهير العرقي ضد ذكور بعض القرى، ما زال ماثلاً أمامهم. لا بل هم يسمعون قصص الناجين النازحين إلى مخيمات أقيمت لهم في مدينة ديار بكر ومردين وغيرهما.
وعليه، انتفض الأكراد في سوريا “وقفة رجل واحد” كما يقول إسماعيل، فـ”المسألة قضية وجود وموت وحياة، ولن نسمح بسقوط روج افا”.
وتعني “روج افا”، كما يطلق الأكراد على المنطقة السورية التي يشكلون غالبية سكانها، “غرب كردستان”. وتضم من الشرق إلى الغرب معبدة وجوادية وقحطانية ورأس العين وتل أبيض وعين العرب وعفرين، وهي مناطق قطع “داعش” أوصال بعضها واحتلّ العديد من قراها.
يقول إسماعيل إن القرى التي احتلها “داعش” تفصل “عفرين” عن “عين العرب”، وبعضها الآخر يفصل قرى الحسكة عن عين العرب أيضاً. وتتعرّض عين العرب لهجوم من ثلاث جهات، ويسعى “داعش” إلى السيطرة على أحد الجبال المهمة في المنطقة للتحكم في محيطها.
قبل ثلاثة أيام وقف إسماعيل مع العديد من الأكراد من الجانبين السوري والتركي على طرفي الحدود يصفقون ويهللون لطائرة حربية ظهرت في السماء. “لم تكن تبعد عنا أكثر من 500 متر” يقول إسماعيل. ظنّ الرجال أن الطائرة تابعة للتحالف الدولي – العربي الذي أعلن الحرب على “داعش”، آملين في أن تسهم ضرباتها في إضعاف خصومهم. دقائق قليلة وانقلب التصفيق إلى صيحات غضب واستنكار. يقول الرجال الذين تجمهروا أمس الأول في آليزر التركية التي تقع بمحاذاة علي شار، وتفصلها عنها نقطة مراقبة للجيش التركي الحدودي، أن الطائرة “قصفت تجمعاً لوحدات حماية الشعب الكردية، ولم تقترب من تجمعات داعش شرقي البلد”. لكن خليل يؤكد لـ”السفير” أن قوات الحماية الشعبية لم تتعرّض لأي قصف بطائرات حربية”.
في المقابل، يؤكد إسماعيل رؤيته وبعض الرجال للطائرات، مشيراً إلى أنهم لا يعرفون لمن تعود، “ربما للأتراك، وربما للتحالف، وربما للجيش السوري”، لكن إسماعيل يقول إن لا طائرات سورية تحلق في المنطقة منذ أن أخلاها جيش النظام.
يرجّح البعض أن تكون الطائرة “تركية”، ليعززوا حكمهم بأداء الأتراك مع مقاومتهم الشعبية: “هم لا يسمحون لنا بقطع الحدود لقتال داعش”. لم يكتف الأتراك بمنعهم من عبور الحدود كمسلحين ومقاتلين إلى عين العرب ومحيطها، بل قاموا بإطلاق النار على العديد منهم موقعين إصابات في صفوفهم، وفق ما أكدت مسؤولة من قطاع المرأة في منطقة سروج لـ”السفير”.
كانت الصبية الثلاثينية (لم ترغب بالإفصاح عن اسمها لأسباب أمنية) قد عادت للتوّ من عين العرب. هي لا تسمّيها كما تندرج على خريطة سوريا الوطن. هي كوباني بالنسبة إليها ولأكراد المنطقة، وهم لن يدعوا منطقتهم “تسقط بيد داعش، لن يكون مصير الأكراد هناك كمصير الأيزيديين”، تقول بحماسة كبيرة وسط تجمهر كبير لنساء من بلدة سروج.
تعجّ سروج، آخر البلدات الكردية الكبيرة في تركيا على الحدود السورية، بآلاف الرجال والنساء الأكراد القادمين من مختلف المناطق الكردية المحيطة للتطوع للقتال مع وحدات الحماية الشعبية من جهة، وكنازحين من جهة ثانية. فعلت ارتكابات “داعش” فعلها في نفوس سكان عين العرب. حرص الرجال على إخراج النساء والأطفال من القرى التي حاصرتها “داعش”.
تقول رئيسة بلدية سروج زوهال إيكمز لـ”السفير” إن البلدة تستضيف نحو سبعين ألف نازح من المناطق السورية المحاذية. يبدو ذلك جلياً في شوارعها التي تضيق بالصغار والكبار. يفترش بعض هؤلاء الطرقات ونواصي الشوارع في وقت ضاقت المدارس والمؤسسات الرسمية والمساجد وصالات الأفراح والأحزان عن استيعابهم. بيوت سروج نفسها احتضنت المئات في وقت تغض فيه الدولة التركية النظر عن مساعداتهم، تاركة الأمر على عاتق المجتمع الكردي.
أكراد المنطقة، من ديار بكر إلى ماردين إلى سروج ومحيطها في الشريط التركي المحاذي لسوريا، أعلنوا “النفير العام”. تقول المحاربة الكردية ذاتها إن هناك أتراكاً من اليساريين جاؤوا للتطوع في سروج ودخلوا إلى عين العرب للتدريب، ومعهم رجال ونساء من أكراد يعيشون في بلدان أخرى “فالمعركة صارت أممية، وليست تفصيلاً”.
لا معسكرات تدريبية في سروج أو في أي من الأراضي التركية حيث يمنع الجيش التركي عبور المقاتلين للحدود. “نحن لا نعترف بالأنظمة ولا بما تريده”، وفق المحاربة نفسها “نحن لن نسمح بسقوط مناطقنا وسنبذل الغالي والرخيص في سبيل ذلك، وسننتصر”، تقول وهي ترفع إشارة النصر مع النساء من حولها.
يبدو واضحاً أن الأكراد يتعاملون مع ما يحصل، وعلى مرارته وتأثيره الكبير عليهم، من منطلق السعي لتحقيق مكاسب على طريق مشروعهم الأساس المتعلق بالوطن الكردستاني. حتى أن الأكراد القادمين من سوريا يحملون معهم النظام القانوني الجديد الذي توافقوا عليه لإدارة مناطقهم، وتنظيم حياتهم على أساس المساواة التامة بين الرجل والمرأة، وأسس مدنية أخرى.
هذه المساواة تترجمها النساء الكرديات في المعركة الحالية “لا يقل عدد المقاتلات الكرديات عن نصف المقاتلين”، وفق إسماعيل الذي يتحضر للعودة إلى عين العرب. يقول إسماعيل إن مقاتلي “وحدات الحماية الشعبية” يواجهون داعش بالأسلحة الفردية الخفيفة، بينما يقاتلنا الدواعش بأحدث الأسلحة التي حصلوا عليها من دول كبيرة دعمتهم في البداية وقوّتهم”.
ويؤكد إسماعيل على غلبة الأسلحة الأميركية بيد “داعش”: “دبابات ومدافع وأسلحة ثقيلة، ربما هي أيضاً من السلاح الذي غنموه من الجيش العراقي”. وبرغم التفاوت الكبير في الإمكانات إلا أن قرار أبناء “عين العرب”، ومعهم كل الأكراد في المنطقة، يبدو واضحاً وثابتاً: “لن نترك منطقتنا لقمة سائغة لداعش… وسنقاوم”. وعليه، يقتصر النزوج من المناطق المحاصرة على النساء والأطفال والمسنين، وفق المحاربة الكردية، التي توضح “يذهب للقتال كل امرأة ورجل من عمر 15 سنة ولغاية الستين من العمر”. يتخلّف عن هذا “الواجب” المرضى والأمهات “فنحن لا نريد أن تترك أي أم أطفالها، لأن تربيتهم هي فعل مقاومة”. الأمهات في سروج وآليزر لا يقتصر دورهن على تربية أطفالهن، إذ “يقمن أيضاً في مساعدة النازحين وتأمين احتياجاتهم وجمع التبرعات على أنواعها من المجتمع الكردي”…. وكثيرات من النساء بِعن مصاغهن، فيما قدمت عائلات كثيرة منازلها أو محالها لإسكان العديد من الهاربين من نيران الحرب.
عن السفير اللبنانيَّة