تأتي زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق، بعد 13 عاماً من آخر زيارة على المستوى الرئاسي للعاصمة السورية. حيث جذبت هذه الزيارة اهتمام الأوساط السياسية الإقليمية والدولية، سيما بعد الأحداث المتتالية في المنطقة ذات الصلة بالشأن السوري والإيراني، والتي ترتبط بشكل أو بآخر بالسياسات الخارجية للدول العربية أيضاً، نظراً لصراع النفوذ القائم بين هذه الدول وإيران، والتي تعتبر سوريا في الوقت الراهن نقطة ارتكاز لهذا الصراع، الذي كان –أيضاً- سبباً في إطالة أمد الأزمة السورية.
أهمية سوريا بالنسبة لإيران
لم يعد خافياً على أحد مدى أهمية سوريا بالنسبة لإيران، التي دأبت منذ اندلاع الاحتجاجات السورية، على مساندة القوات الحكومية في وجه الحراك الشعبي الذي اندلع عام 2011. فكان للخبراء العسكريين الإيرانيين دوراً كبيراً في تقديم المشورة إلى قوات النظام السوري للسيطرة على المظاهرات، التي كانت رقعتها تتسع يوماً بعد آخر، سيما وأن الإيرانيين كانت لديهم تجربة سابقة مع احتجاجات “الحركة الخضراء” في 2009. وبعد تحول الاحتجاجات إلى الصراع المسلح، وتلقي المعارضة السورية الدعم من تركيا ودول الخليج العربي، وفي مقدمتها السعودية، تدفقت الفصائل الشيعية التابعة لإيران إلى الأراضي السورية، وخاضت – مع حزب الله، وقوات حكومة دمشق – الصراع ضد فصائل المعارضة المسلحة، وتحملت إيران في هذا الصراع تكاليف بشرية ومادية باهظة، حيث بيّن الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، حشمت فلاحت بيشه – وذلك بالتزامن مع زيارة رئيسي إلى دمشق- أنّ ديون إيران المستحقة على سوريا بلغت 30 مليار دولار.
إنّ الدعم الإيراني لدمشق، ليس مجرد دعم عادي يقدمه حليف لحليفه، بل يتعدى الأمر ذلك إلى وجود ارتباط عضوي بين سلطات البلدين، وهذا الارتباط هو الذي يحفظ وجودهما بذات الدرجة. فقد رأينا خلال سنوات الحرب السورية الدور الجوهري لإيران، إلى جانب روسيا، في إعادة بسط نفوذ سيطرة الجيش الحكومي على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية، في مقابل ذلك نجد أيضاً كيف استثمرت إيران هذا التواجد على الأرض في سوريا، وباتت اليوم تشكل جبهة عسكرية متقدمة، خارج حدودها، تتيح لها المناورة والضغط على الأطراف الإقليمية والدولية، للمضي قدماً في مشروعها الرامي إلى الهيمنة على العالم الإسلامي، وتصديع رأس الولايات المتحدة وحلفائها، لدفعها إلى الخروج من المنطقة، وهو يعتبر هدف عقائدي أساسي لنظام الجمهورية الإسلامية، سيما وأنّ الولايات المتحدة باتت اليوم تشكل العقبة الكبرى أمام إيران لتثبيت وجودها في سوريا- التي تعتبر الشريان الرئيسي لمشروعها التوسعي- بل وتهدد هذا النفوذ، وتسعى إلى ضربه، بشتى الوسائل، وهو هدف تشترك فيه إسرائيل والدول العربية، والولايات المتحدة. وتدرك إيران جيداً أنّ خسارة سوريا هي مسألة مصيرية بالنسبة لها، لأن هذه الخسارة تقطع شريان الحياة الرئيسي في مشروعها التوسعي، والذي يربط وجودها في العراق بوجودها في لبنان من خلال حزب الله. وبالتالي، فإنّ انهيار هذا المشروع، الذي يعتبر أحد أوراق الضغط الرئيسية، إلى جانب الورقة النووية وورقة الصواريخ البالستية والمسيّرات، من شأنه أن يحدث خلخلة كبيرة في السياسة الإيرانية، ويفقدها أحد ركائز الضغط الرئيسية، وبالتالي ستدخل في سلسلة التنازلات، التي ستنتهي في نهاية المطاف بالإطاحة بالنظام.
سبب زيارة رئيسي في هذا التوقيت
برز ملف الأزمة السورية، خلال الفترة الأخيرة، إلى الواجهة من جديد، مع محاولات الدول العربية كسر العزلة عن النظام السوري، وإعادته إلى محيطه العربي، تمهيداً لإيجاد حل سياسي للأزمة، وحل قضية اللاجئين السوريين، وبحث سبل التعاون مع الأمم المتحدة لتوفير بيئة آمنة، ودعم البنية التحتية في المناطق التي سيعود إليها اللاجئون، ما قد يشكل تمهيداً لإعادة الإعمار، في حال توصلت هذه الدول مع الحكومة السورية إلى حلحلة الأزمة.
حيث تكررت الزيارات الدبلوماسية بين سوريا ودول الخليج، خلال الآونة الأخيرة، كما شهدت العاصمة الأردنية عمانّ، في مطلع الشهر الجاري، عقد اجتماع تشاوري ضم “المقداد” مع وزراء خارجية الأردن والسعودية والعراق، لمناقشة السبل المتاحة للتوصل إلى حل للأزمة السورية، وجاء الاجتماع بعد أسبوعين من اجتماع جدة، الذي عقد للهدف ذاته، وانتهت هذه المساعي بالموافقة على استعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية، خلال الاجتماع الذي عقده مجلس جامعة الدول العربية على المستوى الوزاري في دورته غير العادية، برئاسة مصر، في 7 أيار/مايو الجاري.
يثير هذا الالتفاف العربي حول سوريا، بعد قطيعة دامت لأكثر من عقد، مخاوف إيران من حدوث تقارب من شأنه أن يحدث تباعداً بين الحليفين الاستراتيجيين، ويلحق الضرر بالحسابات الإيرانية في المعادلة السورية.
إنّ المساعي العربية في التقارب مع حكومة دمشق، وإعادته إلى الجامعة العربية، هدفها الرئيسي هو إعادة الاستقرار إلى المنطقة العربية، ونزع فتيل التوتر فيها، بعد التأزم الكبير الذي انتشر في دول المنطقة، نتيجة الحرب الدائرة في سوريا، التي امتدت تداعياتها بشكل واضح إلى دول الجوار مثل الأردن ولبنان ودول الخليج وعلى وجه الخصوص، السعودية. وتشمل هذه الآثار قضية اللاجئين السوريين، وخطر تهريب المواد المخدرة، والحرب بالوكالة التي امتدت نارها إلى الحدود السعودية مع اليمن، واستمرت لسنوات.
كما يمكن اعتبار عملية إعادة حكومة دمشق إلى الحاضنة العربية، استمراراً لسياسة السعودية في تقاربها مع إيران، لأنّ بؤرة التوتر الإقليمي السعودي مع إيران تأججت مع اندلاع الأزمة السورية، حيث دخل الطرفان منذ بداية الأحداث، على خط المواجهة، وخاضا حرباً بالوكالة على الأراضي السورية.
إنّ الدول العربية على دراية كاملة بالمشروع الإيراني التوسعي في المنطقة، وجعل الأراضي التي تتواجد فيها إيران بمثابة دروع لها لمواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، اللتان تعتبران أكبر عائقين أمامها لتحقيق مشروعها، وبالتالي يمكننا القول بإنّ إبعاد الشبح الإيراني من المنطقة العربية سيكون من ضمن أولوياتها، ولعلّ الهدف من التقارب مع النظام السوري أيضاً له ذات الهدف.
وعليه، فإنّ زيارة رئيسي إلى دمشق في هذا التوقيت تحمل بين طياتها عدة رسائل إلى الأطراف العربية والإقليمية والدولية:
- رسالة إلى النظام السوري وتذكيره بأهمية التحالف الإيراني- السوري على مر عقود. كذلك التذكير بالخسائر الإيرانية الكبيرة التي قدمتها إيران في سبيل المحافظة على بقاء النظام، وبالتالي لا يمكن تجاهلها في أي محاولة لحلّ الأزمة السورية، سيما وأنّ النوايا العربية تتجه صوب ضرب التحالف السوري-الإيراني.
- رسالة إلى الدول العربية، مفادها أنه ليس من السهولة بمكان إبعاد النظام السوري عن الحليف الإيراني، وإنّ إيران ستكون حاضرة في أية مشاريع إعادة إعمار مستقبلية، وهذا ما بيّنه المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني، بأنّ سوريا دخلت مرحلة الإعمار، وأنّ إيران جاهزة لتكون مع الحكومة السورية في هذه المرحلة، كما كانت معها “في القتال ضد الإرهاب”.
- رسالة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، بأنّ الضربات الإسرائيلية، التي زادت وتيرتها في الآونة الأخيرة، لن تتمكن من إخراج إيران من سوريا، ويتضح ذلك من لقاء رئيسي، في القصر الرئاسي بدمشق، بعدد من قادة الفصائل الفلسطينية، بحضور وزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، والتأكيد على التزام إيران بدعم إيران لـ “محور المقاومة”.
أهداف معلنة وأخرى خفيّة
تناقلت وسائل الإعلام العربية مخرجات الاجتماع بين الرئيسين الإيراني والسوري، حيث تم توقيع
مذكرة تفاهم بعنوان: “خطة التعاون الشامل الاستراتيجي طويل الأمد” بين سوريا وإيران. وتم توقيع عدد من الاتفاقيات الحيوية في مجال الزراعة والنفط والمناطق الحرة والاتصالات، ومجالات أخرى، منها: مذكرة تعاون في مجال النفط، ومجال المناطق الحرة، وأخرى بين المركز الوطني للزلازل في سوريا والمعهد الدولي للهندسة الزلزالية في إيران. إضافةً إلى محضر اجتماع للطيران المدني.
مما لا شك فيه أنّ هذه الاتفاقيات على درجة من الأهمية بالنسبة للنظام الإيراني، الذي يسعى إلى تثبيت نفوذه في المجالات الحيوية المهمة في سوريا، ومنها تعزيزه لنفوذه في الساحل السوري، والعمل على ربط دمشق بطهران من خلال إنشاء خط سكة حديد تمر ببغداد، ما يزيد من حجم الصادرات الإيرانية إلى سوريا، وقد تستفيد إيران من هذا الخط بنقل العتاد والمواد اللوجستية التي تدعم مشروعها في سوريا.
هدفٌ آخر كان وراء زيارة إبراهيم رئيسي إلى دمشق له صلة بملف إيران النووي، في ظل عدم حدوث انفراجة فيه، واستمرار تعنّت إيران ومماطلتها حيال الإذعان لشروط الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي تطالب إيران بتعهدات تؤكد على التزامها بتعهداتها حيال سلمية برنامجها النووي، وعدم وجود أنشطة نووية سرية في الأراضي الإيرانية.
حيث كشفت وثيقة سريّة مسرّبة عن موافقة الحكومة الإيرانية في كانون الثاني/يناير الفائت، على طلب منظمة الطاقة الذرية الإيرانية لشراء 800 ألف طن من الفوسفات السوري المستخرج من منجم خنيفيس، الذي يتضمن مستويات عالية من اليورانيوم، سنوياً، للاستفادة منه في صنع “الكعكة الصفراء”، وهي أحد أنواع بودرة اليورانيوم المركّزة، التي تستخدم في تحضير وقود المفاعلات النووية، وبذلك تسترد إيران جزءاً من التكاليف التي أنفقتها في الصراع السوري من جهة، ومن جهة أخرى، تستمر في سياستها التصعيدية في مواجهة الغرب والولايات المتحدة، في ظل عدم التوصل إلى اتفاق في ملفها النووي بشكل يلبي طموحاتها، كما أنها تستعد للسيناريو الأسوأ الذي قد تواجهه مع التطور المحتمل للأحداث داخل إيران، والتصعيد الذي ستنتهجه القوى الغربية في حال قررت إعادة فرض العقوبات الأممية عليها، أو بدأت الولايات المتحدة وإسرائيل بالتفكير بشكل جدّي في شنّ ضربات عسكرية ضد المواقع النووية الإيرانية، سيما وأنّ الولايات المتحدة وإسرائيل كثفتا في الآونة الأخيرة من تدريباتهما العسكرية الجوية والبحرية المشتركة لمواجهة التهديدات الإيرانية، كما أنّ أمريكا زودت طائراتها في الشرق الأوسط بقنابل خارقة للتحصينات، وهي إشارة إلى الاستعداد لتدمير المنشآت الإيرانية النووية المحصنة تحت الأرض، في حال جرت الأمور نحو مزيد من التصعيد، وخرجت عن السيطرة.
في ظل هذا التنافس بين الدول العربية وإيران للتأثير على النظام السوري، وعمل كل طرف منهما على دفعه للسير وفقاً لرؤيتها، لا نعتقد أنّ الأخير سيختار طرفاً منهما بشكل كامل على حساب الآخر، وإنما سيحاول اللعب على هذا التناقض المتاح له، في سبيل كسب المزيد من الوقت، وانتظار ما قد يحدث من متغيرات على الساحة الإقليمية والدولية، تبعده إلى حين من مواجهة الطريق المسدود والجمود الذي توقفت عنده الحالة السورية.
المصدر: مركز الفرات للدراسات