يوم الجمعة الماضي، كان الخبر الأكثر قراءة في عدد من منصات هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي)، التي تبث بلغات مختلفة، عنوانه على هذا النحو: «عريفة سابقة في سلاح الجو الملكي البريطاني تروي كيف تعرضت لاعتداء جنسي أثناء الخدمة».
وفي مطلع شهر أبريل (نيسان) الحالي، نشرت الـ«بي بي سي» العربية موضوعاً تحت عنوان «بريطانيا وفرنسا خططتا للتحكم في قناة السويس عن طريق تحالف شركات غربية حتى بعد التأميم»، وهو الموضوع الذي نقل عن وثائق رسمية بريطانية ما يفيد بأن لندن لم تكن تعتزم تسليم القناة ذات الأهمية الاستراتيجية الكبيرة لمصر عام 1968، كما تنصّ العقود والتفاهمات بين البلدين.
وفي هذا الموضوع، الذي كان الأكثر قراءة أيضاً، خلصت المعالجة الصحافية إلى أن «الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، الذي تعرّض لانتقادات بسبب قرار التأميم المبكّر للقناة، أصاب في توقعه بأنه لم يكن لدى الغرب نيّة لتسليمها كاملة إلى السيادة المصرية».
سيمكن توجيه الكثير من الانتقادات لأداء الـ«بي بي سي» على صعد الموضوعية والدقة، كما أن لديها سجلاً من الأخطاء المتفاوتة الحدّة في مسيرتها الصحافية العامرة والممتدة، بل إنها اعتذرت كثيراً عن وقوعها في أخطاء، كما خضع أداؤها التحريري لفحص وتمحيص من لجان وهيئات متخصّصة لتقصي مدى مهنيتها في إنجاز عملها، تحت ضغط سيل من الشكاوى والتشكيك، لكن هذا كله لا ينال من سمعتها المهنية، أو يُغري باستسهال اعتبارها «أداة دعاية بريطانية»، كما يقول بعض النقاد.
الأمر ذاته يمكن أن نرصده في أداء بعض وسائل الإعلام الغربية المملوكة للدول؛ أي تلك التي تتبع نمط «الخدمة العامة»، وتنهض بدور إعلام الدولة، الذي يمثل المجموع العام، من دون الخضوع التام لإرادة السلطة التنفيذية، أو التورط المفضوح في الترويج والدعاية لها.
لذلك، سنجد خلال الشهر الحالي نفسه، أن «فرنسا 24» تنشر موضوعاً عن «هاشتاغ ماكرون زبالة»، وتنتصر في معالجتها لسيدة خمسينية لوحقت بتهمة «إهانة الرئيس»، بينما ستنشر «دويتشه فيله» تقريراً عن «صعوبة سد فجوات التسليح في الجيش الألماني قبل نهاية العقد»، وستعرض انتقادات بعض الأطراف لسياسة الحكومة الداعمة للدفاع الأوكراني.
إن هذه المؤسسات تخطئ وتنحاز كأي وسيلة إعلام في العالم، ولدى كل منها سجل متباين من الأخطاء المهنية، لكن القول بأنها أدوات دعاية حكومية مباشرة ينطوي على ظلم بالغ لها من جانب، ويُغري بمفهوم الاستقلالية التحريرية من جانب آخر، وإلا لتجنبت نشر مثل تلك الموضوعات، التي لا ترضى عنها حكوماتها بكل تأكيد.
لذلك، فإن «تويتر»، الذي استحوذ عليه إيلون ماسك قبل ستة شهور، ولم يتوقف عن إدهاشنا بقراراته المرتبكة والصادمة طيلة هذه الفترة، لم يكن على حق حين ساوى بين تلك الوسائل العمومية، التي تنتهج نهجاً مهنياً، وترسي آليات مراجعة وتقويم تحريري مستديمة، وبين وسائل إعلام أخرى تنشط في دول شمولية، وترهن خطها التحريري بالكامل لإرادة الحكومة.
وكان «تويتر» قد أضاف أيقونة «حساب تابع للدولة»، أو «وسيلة إعلام ممولة من الحكومة» إلى حسابات وسائل إعلام عمومية كبرى؛ منها الـ«بي بي سي»، والـ«إن بي آر»، وهو الأمر الذي أثار اعتراض المؤسستين، وفجّر لغطاً وجدلاً واسعين.
وحين أجرى ماسك حواراً مع الـ«بي بي سي» نفسها، نهاية الأسبوع الماضي، أقرّ بارتكابه أخطاء خلال إدارته لـ«تويتر»، بل وتراجع عن إلصاق التوصيف المثير للجدل بالهيئة، الذي أُزيل بالفعل، خصوصاً بعدما أعلنت الشبكة الأميركية الـ«إن بي آر» مقاطعة المنصة للسبب ذاته.
والواقع أن معظم تمويل الـ«بي بي سي» يأتي من إيرادات الرخص السنوية، التي يتم جمعها مباشرة من الجمهور، وأنها تمتلك آليات وسياسات واضحة لمتابعة أدائها وضمان استقلالية خطها التحريري، وهو أمر يشابه ما يحدث مع مؤسسات إعلامية عمومية أخرى في الغرب، ولا نجد له مثيلاً، إلا فيما ندر، في مناطق أخرى من العالم.
والشاهد أن الكثير من معايير العمل الصحافي الرشيد وقيمه؛ مثل الحياد والتوازن والموضوعية والاستقلالية، تتّسم بقدر واضح من النسبية، ولا يُعد نمط الملكية، أو طريقة التمويل، المعيار الحاسم في تحديد مدى استقلالية وسيلة الإعلام من عدمه.
فالحديث عن وسيلة إعلام مستقلة يستوجب تعريف الاستقلالية بوصفها مفهوماً نسبياً، وتحديد الاستقلالية عن من، وماذا، وبأي قدر؟ أما الحديث عن استقلالية تامة، فلا يطرح مفهوماً قابلاً للنقاش.
فثمة وسائل إعلام خاصة تندرج بوضوح ضمن أدوات الدعاية الحكومية، بينما يظل تقييم الاستقلالية التحريرية لأي وسيلة إعلام مرهوناً بتنظيمها وآليات المتابعة والتقييم التي تعتمدها وأدائها الفعلي.
د. ياسر عبد العزيز
المصدر: الشرق الأوسط