للسوريين الحق الكامل في الحياة / ريما فليحان

يرقد المريض وتغطي الدماء والتقيحات جسده، يصيح ألماً، وقد أعيته الحرارة. يأتي الطبيب، ويبدأ تضميد الجراح التي أصابت أصابعه ربما، ويضع عليها البلاستر، وقد يضع قطعة قماش مبللة بالماء فوق الرأس، لتخفيف الارتعاش والحرارة، بينما يبقى الجسد مثخناً بالجراح، وقد غرزت أداة حادة ربما في الظهر أو الخاصرة.

هكذا بدا لي المشهد في سورية، تحديداً منذ بدأ النظام يقتل الشعب وثورته الحالمة بالحرية، فالسكينة التي طعنت في خاصرة الوطن بغدر نظام ينتمي صورياً إلى هذا الشعب، تم التعامل معها بتلك السطحية أعلاه. والمجتمع الدولي حين يحاول استئصال إرهاب “داعش”، وهو أمر ضروري، ينسى أن سبب ولادة داعش وما قد يولد بعدها الفوضى التي خلفها عنف النظام وإجرامه وإعطاؤه الضوء الأخضر، بشكل غير مباشر، في التغاضي عن استمرار جرائمه من دون حساب، وعبر انتشار السلاح، وشعور السوريين باليأس. هذه تشكل العناصر الأساسية لولادة التطرف، أو قبول عبوره في وطنٍ، يعيش فيه شعب حضاري متمدن، لم يكن مألوفاً له قبول الطائفية والحقد، أو مشاهد الدماء، أو الغلو في الدين إلى حد التطرف والإرهاب. السوريون الذين صنعوا حضارات عديدة في التاريخ، وبنوا أقدم المدن في العالم، يتلقون الموت القادم من السماء، من دون مساعدتهم في التخلص من سبب المشكلة، المتمثل في نظام الأسد أولاً، وإيقاف أسباب عبور التطرف، وإيقافه ثانياً، وهو ما شاركت به دولٌ بقصد أو بدونه، بتسهيل مرور القادمين من أقاصي الأرض، بأفكارهم المريضة وعنفهم المجرم، ليقطعوا الرؤوس، ويصادروا إرادة السوريين في المدنية والحضارة والتحرر.

ينسى المجتمع الدولي أن سبب ولادة داعش وما قد يولد بعدها، يكمن في الفوضى التي خلفها عنف النظام وإجرامه

لا أقلل من أهمية التخلص من داعش، ومن يشبهونها سلوكاً وفكراً، ولا من خطر هؤلاء على المنطقة، لكنني أذكّر هذا العالم الغريب بأن السوريين يدفعون ثمن أخطاء هذا العالم مرات ومرات، حين يتغاضى عن الجرائم المرتكبة بحقهم، وحين يتعامى عن النصائح التي قيلت لهم من المعارضة السورية والعقلاء في العالم، وأفادت بأن طول مدة ما يحصل في سورية سيعني، بالتأكيد، الوصول إلى انخفاض صوت الحراك المدني والديموقراطي لصالح ارتفاع وتيرة التطرف والغريزية، فمن يواجه الموت يومياً في حالة العبث في بلادنا لن يلام، لاحقاً، حين يتعلق بأية آمال، ولو كانت واهية، أو تحمل أفكاراً غريبة على ثقافة الشعب، أو تاريخه الحضاري العميق.

وإذ تخشى دول كثيرة، اليوم، على أمنها من التطرف في المنطقة، فإنها ساهمت بخلق هذا التطرف، بتمويل الجهات الخاطئة، أو تسهيل عبور المقاتلين الأجانب، أو بالتساهل في موضوعية الإعلام الذي يخاطب شعوب المنطقة، على حساب تحقيق الأجندات الخاصة لتلك الجهة. وليس صحيحاً أن كل ما يحصل، أو ما حصل، في سورية، كان نتيجة حسابات خاطئة، وإذا كان كذلك، يمكنني أن أفهم حالة الغضب العارم لدى السوريين تجاه الجميع، كونهم وُضعوا في موقع الضحايا الطبيعيين لكل الأطراف، في كل المرات، وأن عليهم أن يموتوا فقط، بينما تنهي دول العالم لعبتها في حرب السيطرة.

أرغب في التخلص من داعش والتطرف في بلادي، وفي العالم، لكنني لا أقبل أن يكون السوريون في الخانة المستباحة للجميع، وللجميع، إلا للسوريين أنفسهم. ولا يمكن لأيٍّ من الدول الحريصة على “الأمن والسلم العالمي” أن تتحدث، بعد الآن، عن تخوفاتها، طالما أنها لم تعبأ أبداً بدماء السوريين المسفوحة طوال ثلاثة أعوام، فلم تحرك هذه الدول بشأنه قيد أنملة. والآن، يقف هذا العالم، اليوم، أمام استحقاق حقيقيٍّ، يوجب عليه حل المشكلة من جذورها، وعلاج الجروح المثخنة، بالضغط الحقيقي على النظام السوري، وعلى كل من يقف بوجه التحول الديموقراطي في سورية، من أجل التقدم نحو مرحلةٍ انتقالية، تتوقف فيها شلالات الدم ويتوقف فيها دمار وطن عريق، شهد حضارات تمتد آلاف السنين، ما يعني الانتقال إلى الخطوة التالية، هي الضغط لعودة الأطراف إلى المفاوضات، بنيّة جديةٍ نحو التحول الديموقراطي، والكف عن العبث في التسليح والتسيير، ورسم خرائط جديدة للمنطقة، وتنازع المكاسب والغنائم، وإلا ستتقاسم كل دول المنطقة والعالم حصصها من الخراب والأذى، بفعل انتقال العدوى والحقد ودوامة العنف.

يحق للسوريين أن يعيشوا، ويحق لهذه المنطقة أن تنعم بالمدنية التي ينعم بها الغرب، ويحق لنا أن نتنفس الصعداء، ويحق لنا الحلم في بناء وطن معافى من الديكتاتوريات والتطرف، لكي نساهم، اليوم، كما ساهمنا، في التاريخ، في بناء الحضارة الإنسانية.

آن لهذا المريض أن يتعافى، وآن لهذا الطبيب أن يستعيد الضمير. للسوريين الحق الكامل في الحياة، بدهيّة مفقودة في أروقة السياسة.

عن العربي الجديد