ثمة رابط خفي من نوع المفارقة، بين أن تتابع جلسات المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريري، وبين أن ترصد تلك الحركة «الفكرية» الناشطة في السعودية. في لاهاي، سلسلة جلسات رتيبة مملّة لم تعد تثير اهتمام أحد. كانها تكرار مضجر لمسرحية هجرها جمهورها، ولما ييأس منتجها بعد. لا يزال يدفع رواتب الممثلين، فيؤدون أدوارهم أمام مقاعد مهجورة ومسرح خال.
أما في الرياض فحراك لافت. قبل يومين عبدالله يدعو المنظّرين الدينيين لنظامه إلى البحث في «الأزمة الثقافية للأمة». قبل أسبوعين فتوى تحرم القتال إلى جانب الإرهابيين، تصدرها إحدى هيئات النظام. قبل 20 يوماً، كلام رسمي عن «أن الطائفية هي الوجه الآخر للإرهاب». قبل نحو شهر، ما يسمى «مجلس الشورى السعودي» يصدر انتقاداً علنياً لما اعتبره «الاجتهادات الميدانية الخاطئة» لجناح التسويغ الديني لنظام العائلة السعودية، أو المطاوعة. وذلك على خلفية حادثة لا تقل خروجاً عن المألوف السعودي: أحد بوليسيي المطاوعة ضرب مواطناً بريطانياً. مسألة عادية لا بل سلوك تاريخي لذلك الجهاز. لكن المفاجأة أن الحادثة انتشرت بالصوت والصورة، وان جهاز التسويغ الديني نفسه أجرى تحقيقاً في الموضوع. وأن «تقريراً رسمياً» صدر حول حادثة الاعتداء، ونشر كاملاً للمرة الأولى منذ قيام نظام تلك العائلة، بما تضمّنه من إدانة ذاتية. كل ذلك فيما عبدالله، رجل العائلة والنظام الأول، يكرر خطبه المنددة بإرهاب «داعش» ومشتقاتها، إما بلسانه ــــ كتابة طبعاً ـــ وإما بلسان مفتي النظام.
هي سلسلة من ردود الفعل السعودية غير العادية. لكنها ليست غير مسبوقة. إذ سبق لنظام العائلة نفسها أن اعتمد ردود الفعل نفسها مرة سابقة. كان ذلك بعد أحداث 11 أيلول 2001. يومها بلغ الحراك السعودي أن النظام راح يناقش مع جورج دبليو بوش مناهجه التربوية، وماذا يدرّس في صفوف تلامذته وطلابه، والعلاقة بين الإرهاب وبين نظام «المدارس» الدينية التي يرعاها في العالم. وصولاً إلى تعقب حركة الأموال السعودية فلساً فلساً أو برميلاً برميلاً. حتى طال ذاك التعقب فؤاد السنيورة، فحرم من سمة دخول واشنطن، قبل أن تتغير الأمور، ويتغير كل المعنيين بتلك الحقبة.
ما هو العنصر المشترك بين حراك الرياض سنة 2001، وحراكها نفسه سنة 2014؟ العلاقة واضحة بسيطة. ففي المرة الأولى، كان ثمة مسخ إرهابي متجمع تحت اسم تجاري من النوع «الجينيريك»، هو «القاعدة». وكان قد خرج من رحم نظام العائلة السعودية. وطبعاً بتعاون، أو رضى، أو غضّ نظر أميركي في أضعف الاحتمالات. وكان ذلك المسخ قد أعد لضرب عدو مشترك، اسمه موسكو السوفياتية. قبل أن يتفلّت من مهمته الأساسية، ويصاب بتحول جيني، ويرتدّ ضد الرياض وواشنطن، على طريقة العقدة الفرويدية في «قتل الوالد». هكذا صار السعودي والأميركي أمام حالة ذعر، تتراوح بين رؤية نفسيهما في المرآة، وبين إدراك ما جنته أيديهما. فتحرك الاثنان بهلع، باستنفار، وبجدية للخروج من المأزق الوجودي كما الأخلاقي.
اليوم، المشهد نفسه يتكرر. ثمة مسخ إرهابي أكثر توحشاً وبربرية، حمل تدريجياً، اسماً تجارياً آخر من النوع العام، هو «الدولة الإسلامية» أو حتى «الخلافة». وهو كان قد خرج أيضاً من الرحم السعودي. وبالتعاون الأميركي نفسه، أو غض النظر او التواطؤ أو الجهل أو الأحادية الفكرية العميقة لدى واشنطن. وهو مسخ كان معداً للقضاء على عدو مشترك آخر، يتراوح بين حزب الله ودمشق وطهران. قبل أن ترتدّ بعض مجسّات همجيته صوب الرياض، وصوب الغرب، ولو بداية عبر ضحايا مدنية بريئة. فاستنفر ثنائي واشنطن ــــ الرياض مجدداً، واستعاد ذاكرة تورا بورا وبرجي نيويورك. فأعاد نسج الغطاء الدولي نفسه، وقرر الدخول في السباق، على قاعدة قتل المسخ الذي خلقه، قبل أن يقتل المسخ الفرويدي والده مرة ثانية.
ما علاقة تلك المماثلة بمحكمة لاهاي؟ في المرة الأولى، وفي خضم تلك الحرب الأميركية الغربية ضد مسخ «القاعدة»، سقط رفيق الحريري غدراً وبوحشية مطلقة في قلب بيروت. في اليوم التالي مباشرة، كتب ألكسندر أدلر استناداً إلى أسرار باريس المخابراتية، أن سبب اغتيال الرجل هو عمله على استمالة القوى السنية المسلحة في شمال غرب العراق، لصالح نظام بغداد، وضد حالة الإرهاب الأصولي السني التي تستثمرها «القاعدة». وذلك بتكليف مشترك من الرياض وواشنطن. وأهل الاختصاص يعلمون من أين يأتي أدلر بمعلوماته، خصوصاً تلك الطازجة منها وكأنها المكتوبة قبل الاغتيال لتنشر بعده تواً.
اليوم ثمة حرب مماثلة ضد المسخ الثاني الإسمه «داعش». والرياض وواشنطن منخرطتان فيها بالكامل. والعراق مسرح لها، وصولاً إلى عرسال. وفي حمأة تلك الحرب، قيل إن واشنطن تمنّت على الرياض عودة سعد الحريري إلى بيروت. لكن الأخيرة لم تتجاوب. فهي تعرف الكثير عن حرب الـ 2001 وعن حرب الـ 2005 وعن حرب اليوم قطعاً. لكن المؤكد أن لبنان في حاجة اليوم إلى عودة الحريري الابن. أولاً كي لا يأكل المسخ الإرهابي كل القاعدة الحريرية، وثانياً كي لا يصبح لبنان أفغانستان. عودته مطلوبة، لأن المسخ بات في عرسال، ولأن مسرحية لاهاي مستمرة.
جان عزيز / عن الأخبار اللبنانيَّة