تفتقد دمشق اليوم كثيراً من مبدعيها الذين غادروها مع اشتداد قبضة النظام الأمنية والعسكرية عليها. رحل هؤلاء وظلت أماكنهم شاغرة في المسارح والمعارض الفنية والمقاهي. واحد من أبرز تلك الأسماء، المسرحيّ محمد آل رشي (1970)، الذي كان اعتقل لفترة قصيرة بعد أشهر من انطلاق الثورة السورية، ما اضطره بعد عامين إلى ترك البلد، حفاظاً على حياته.
رغم تجربته القصيرة نسبياً، استطاع آل رشي تثبيت حضوره على خشبة المسرح السوري المعاصر. ففي الوقت الذي تمكّن الإغراء التلفزيوني من جذب القوس الأوسع من الممثلين والمشتغلين السوريين بالمسرح إليه، ظل المسرحي الشاب متمسكاً بالخشبة، مشروعه ومسكنه الفني الدائم، ليقدّم عليها أعمالاً تصنّف كعلامات فارقة في المسرح السوري.
لم يلمع نجم آل رشي سريعاً؛ إذ اقتصر حضوره في الشاشة الصغيرة على أدوار ثانوية كان أبرزها دوره في مسلسل “الانتظار” (2006). وحتى في المسرح والسينما، ظل بعيداً عن الأضواء، إلى أن جاء عرض “المهاجران” (2008) الذي أخرجه ومثّل فيه، إلى جانب آل رشي، سامر عمران، عن نص للكاتب البولوني سلافومير مروجيك.
”
نجح في اجتراح خصوصية سورية للشخصيات الأجنبية التي أداها على الخشبة
”
قدّم آل رشي، في المسرحية، شخصية المهاجر البسيط القادم من قرية نائية في الشرق السوري. وكان أداؤه لافتاً ويوحي بفهمه العميق لجزئيات المسرح، واستيعابه إلى حد بعيد لشخصية مروجيك الأجنبية في المقام الأول، ولقدرته العالية على تكوين الشخصية السورية منها، في المقام الثاني. هكذا، بدت شخصية المهاجر وكأنها سورية بالمطلق. كما أن انفعالاته على الخشبة بدت نابعة تماماً من طبيعة الشخصية التي قدّمها، ما ساهم في إقامة علاقة وطيدة مع المتلقي/ المشاهد.
بعد “المهاجران”، طرح سؤالٌ صعب نفسه: هل ما قدمه آل رشي في هذا العرض “طفرة”، وتزول؟ الإجابة جاءت في العام التالي، 2009، مع عرض “الشريط الأخير”، من إخراج أسامة غنَم، عن نص لصموئيل بيكيت. هنا، كان المسرحي وحيداً على خشبة “دار الأوبرا” في دمشق، يقدّم واحدة من الشخصيات الشهيرة في المسرح العالمي: شخصية كراب، العجوز الذي يستمع إلى أشرطة كان يسجلها في أعياد ميلاده السابقة. اللافت في أدائه حينها هو قدرته على تجاوز الفارق العمري الكبير بينه وبين الشخصية السبعينية وتقديمها بشكل باهر، عبر حركاته البطيئة إلى الحد المطلوب، وكذلك عبر كلماته الثقيلة ولعبه على طبقات صوته بحيث يُخال لمن يسمعه أنه عجوز بالفعل.
وسط صخب الثورة السورية في دمشق، مطلع 2013، أخرج أسامة غنم أيضاً مسرحية “العودة إلى البيت”، عن نص للكاتب البريطاني هارولد بنتر، لعب آل رشي فيها دور الأب، الرجل الستيني الشعبي الذي تعجّ حياته بالفوضى ويتّسم خطابه بالغوغائية. شخصية تتقاطع، إلى حد ما، مع شخصيته في “المهاجران”، الشعبية الفوضوية هي الأخرى. هنا، ظهرت براعة آل رشي في لعب أدوار تتشابه في الظاهر وتختلف في الباطن. فرغم تشابه طبيعة لغة كل من الشخصيتين، إلا أن الفنان تمكن من التقاط الفرق الجوهري بينهما، ليقدّم أداء فريداً تميز فيه على حضور زملائه على الخشبة، مؤكداً أن ما يجعل منه ممثلاً مسرحياً فذاً ليس إلا إلحاحه الدائم على فهم تفاصيل الشخصية التي يلعبها ودورها من النص.
لم يقف آل رشي موقفاً محايداً من ثورة أبناء بلده على النظام المستبد؛ إذ شارك في العديد من المظاهرات السلمية مطلع الثورة، ما دفع شبكة النظام الأمنية إلى ملاحقته واعتقاله وتضييق الخناق عليه، فرحل إلى بيروت منتصف العام الماضي حيث أقام ورشة لإعداد الممثلين، ولعب دوراً في عرض “عتبة الألم لدى السيدة غادة”، من كتابة وإخراج عبد الله الكفري، مؤكداً على حضوره المسرحي المميز، والدائم، وإن اختلف مكان الخشبة والظروف المحيطة بها.
عن العربي الجديد