رشا عمران
ظهر، قبل أيام، وسم مثير للاهتمام على وسائل التواصل الاجتماعي، لما فيه من ذكاء وعمق وطرافة، يمسّ قضية حساسة من قضايانا المجتمعية الكثيرة. بدأته شابة سورية تحت عنوان “أجمل ما قيل في الجندر”، انتشر بسرعة فائقة بين السوريات ثم السوريين، ثم امتدّ إلى باقي العرب، جاءت مشاركاته محمّلة بإرث كبير من التمييز المجتمعي اللفظي ضد المرأة، والذي أدّى إلى إرثٍ من التعسّف الجسدي الطويل بسبب تلك الثقافة المجتمعية الذكورية المنطوقة التي تمارس ليل نهار، وتستخدمها النساء أيضا عن جهل، ربما، بما ستؤدي إليه ضد بنات جنسهن. وأحيانا، عن قصديةٍ مبطّنةٍ، حيث إن تبنّي ذهنية الجلاد يخفّف عن الضحية الشعور بالشفقة على نفسها، فتتبنّى ما مورس عليها من التعسّف، وتواجه به طرفا أكثر ضعفا، كي تضمن أنها ليست الضحية الوحيدة.
جاء وسم “أجمل ما قيل في الجندر” متنوّعا بين التهكّم والجدّية، وهما على ما يبدو من الطرق التي بتنا نستخدمها للتحدّث عن قضايا مجتمعية مثيرة للجدل في زمن وسائل التواصل، حيث لا مجال لنقاش مجتمعي (ولا لغيره) جدّي ورصين، ذلك أن الخلاف الحادّ في الآراء والجهل بقواعد الحوار الديمقراطي المحفز، واستسهال كتابة أية فكرة تخطر في البال من دون التفكير فيها، واستسهال التخوين والتكفير والشتم والحذف واستثارة الغرائز القطيعية، تفقد جوهر أي نقاشٍ رصينٍ من غايته، فما بالكم إذا كانت القضية تمسّ بثوابت مجتمعية متأصلة في الوعي الجمعي لمجتمعاتنا؟
حمّلت السوريات الوسم كل ما عاصرنه وعشنه واختبرنه من المنطوق اليومي في سورية، الذي يتعلق بالنساء والبنات في البيت والعائلة والمدرسة والجامعة والشارع والصحافة والثقافة والأديان والمذاهب (بمؤسّساتها وتعاليمها وأساطيرها)، وكان الأكثر لفتا للنظر انتباه السوريات إلى التناقض في شخصية الرجل السوري، والعربي عموما، عندما يتعلق الوضع بالمرأة، حين تكون “ملك يمينه”، وبين المرأة حين يحاول أن يجعلها “ملك يمينه”. وهذه مسألة قد يراها بعضهم ثانوية ولا قيمة لها، لكن في الحقيقة هي أكثر العلاقات كشفا للعلل المجتمعية التي نعانيها، والتي تسيّد الثقافة الذكورية وتحيد حضور المرأة واستقلالية قراراتها، رغم أن ما يبدو من وضع النساء العربيات حاليا أنهن صاحبات قرار وقادرات على فرض ما يردن مجتمعيا، لكن الحقيقة أن هذا هو الظاهر، الذي تدفع النساء أثمانا باهظة كي يحصلن عليه قبل أن تعيد كثيرات منهن الدورة ذاتها مع بناتهن لاحقا، لأنهن لم يستطعن مقاومة الخضوع لدور الضحية في مجتمعاتٍ تمنح بركتها للنساء القويمات.
إحدى المفارقات في الوسم هي في تزامنه مع مباراة المغرب وفرنسا، حيث أعطى رد الفعل العربي على صورة لاعبي منتخب المغرب في مباراته السابقة مع البرتغال مشهدا واضحا عن الذهنية الذكورية التي تحكُم مجتمعاتنا، وتجعل من التمييز الجندري مسألة ملحة تحتاج إلى الالتفات إليها ومناقشتها وإيجاد الحلول الناجعة لها، كي تتمكّن هذه المجتمعات من إنقاذ نفسها من الفشل الكبير الذي تعاني منه. إذ انتشرت على وسائل التواصل صور لاعبين في المنتخب المغربي مع أمهاتهم وزوجاتهم وحبيباتهم، (معظم لاعبي المنتخب ولدوا وعاشوا ولعبوا في مجتمعات استطاعت التخفّف من التمييز الجندري إلى حد ما)، ما فتح شهية المعلقين لتكريس الصورة المنمطة عن الأم العربية المضحّية، وعن الزوجة المسلمة العفيفة، وعن أخلاق المرأة المسلمة التي على الرجل المسلم واجب الحفاظ عليها مع أهل بيته.
أما المفارقة الأخرى، فهي أن كرة القدم هي الرياضة الأولى التي تحظى بشعبية مطلقة في العالم، لكنها بقيت حكرا على الذكور، ومارستها النساء بخفر وبحذر شديد خشية اتهام لاعباتها بالاسترجال (التشبّه بالرجل) وخلع صفات الأنوثة عنهن، وهو أمر، في ظني، يحتاج بحثا لمعرفة أسباب الاحتكار الذكوري لها، حيث يحيلها بعضهم إلى مواصفات الجسد الأنثوي الذي قد يتعرّض للأذى نتيجة عنف اللعبة. لكن رأيا كهذا ينحو تماما نحو تكريس التمييز الجندري، ذلك أنه يغض النظر عن العنف الذي مارسه الرجال على أجساد النساء طوال التاريخ البشري، ويغضّ النظر أيضا عما يعانيه جسد المرأة في الحمل والولادة ومتطلبات البقاء على قيد الجمال، كي تحظى صاحبته بامتيازاتٍ لا تحظى بها عادة صاحبات الأجساد غير المرضي عنها ذكوريا.
وبعيدا عن المفارقتين، فالوسم المستمر يؤسّس لطريقة جديدة في تناول قضايا يجرى عادة التعامل معها بحذر، وهذه من فضائل وسائل التواصل.