كدر ثقيل خيم على طالبي اللجوء السياسي (المعارضين) شيباً وشباناً. لم يقوَ المرح ولا الشرح على تبديد الشعور الناجم عن ارتكاب الإثم: إثم النيل من هيبة الدولة عبر إهانة «أزرار كهربائـ»ها.
داخل سوريا، يوفر القتل والخطف والاعتقال مبررات فائضة عن الحاجة، لتغذية شتى صنوف المخاوف الفردية والجماعية. لكن أن تقبض على نفسك وأنت في بلد اللجوء، غارقاً في وساوسك، من دون مسوّغ ظاهر يضعك وجهاً لوجه أمام عار(ك): الخوف. الخوف الذي يتبدى باعتقادات وسلوكيات، تكاد تكون نمطية في أوساط اللاجئين السوريين.
«الآخر هو العكس، ونحن الأصل». هكذا يعتقدون.
نحن الأصل، بكل ما تحمله هذه العبارة من رؤية طفلية متمحورة على الذات، واستعلاء وعجرفة عنصريتين مؤسستين على المغالطات وضيق الأفق، تختزن بداخلها يقين غامض صلب، هو ما يبدو عليه معنى الانتماء والتعريف (الهوية) والولاء، ما يدّعم الانغلاق على الذات ورفض الآخر أو مجرد الانفتاح عليه، ومحاولة معرفته. وإن كانت شائعة شتائم المهاجرين وسخريتهم، وممارساتهم في التمرد على أنظمة وقوانين دول مستقرة، إلا أن من المستهجن على لاجئ سياسي، «اختار» بنفسه بلد اللجوء، أن يحرص بإخلاص على مقاومته وممانعته تجاه أبسط مفردات وجوده الجديد.
الدولة والسلطة والخوف
ولأننا نحن الأصل، ينغلق علينا فهم علاقة الدولة بالسلطة، ويستعصي هضم حدود علاقة السلطة بالمجتمع وبالأفراد. حيث بالأصل في ديكتاتورياتـ(نا)، أن الكهرباء وأزرارها ومتعلقاتها ملك الديكتاتورية، بل اختراعها ربما، ما يجعل التطاول عليها أو النيل منها يشي ببذرة التمرد الخبيثة، التي تستدعي العقاب. وبالأصل في «مواطنينا»، أبناء الديكتاتوريات، أنهم صاغرين ومتصاغرين أمام هوس السلطة بمطاردة محكوميها، وملاحقة آرائهم ومشاعرهم وخواطرهم وملاحظاتهم ونكاتهم وتعليقاتهم العابرة، مسلمين بحقها في الدفاع عن نفسها ضدهم. وبالتالي، مسلمين أيضاً بواجبهم في الإذعان والطاعة والانصياع.. فيهرعون إلى معاقبة أنفسهم بالتوبيخ والكدر وتأنيب الضمير والخوف المقيم، بانتظار يوم حساب السلطة الآتي بلا ريب. فالسلطات «بالأصل لا تمهل وإن فعلت فلن تهمل»!
ومع أنه يفترض بكل طالب لجوء أنه قدّم جواباً ضمنياً أو صريحاً عن سبب اختياره لبلد اللجوء. وغالباً ما يكون جوابه مزخرفاً بالتوقعات والأمنيات والأوهام ربما. لكنه يتضمن بعض المعرفة عن مستوى الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان في بلد اللجوء، إلا أن الدماء المسفوحة في سوريا، والرعب المتمدد فيها لا يزالا أشد حضوراً (كما يبدو) في يوميات اللاجئين من ظلال الحبر الذي كتبت فيه حقوق الانسان وحقوق اللاجئين تالياً.
مرجعيات الخوف وروافده!
بالمقابل، فإن زلة لسان الشاب اللاجئ في المجمع الفرنسي، سرعان ما فتحت عند المحيطين به من أقرانه، شهية «محكمة الأخلاق»، الناطقة باسم الدين والثقافة والعادات والتقاليد. فمن دون عناء قررت تلك المحكمة الافتراضية تجريم المتهم: «لا تبصق في بئر شربت منها»، «لا تعض اليد التي تطعمك».. فالمحكمة السورية «المعارضة» لنظام الحكم في سوريا، لم تزل على يقينها بأن الطعام والشراب والمأوى (وليس الكهرباء فقط) ملك السلطات، تمّن بها على رعاياها الصالحين وحسب.
ولكون المحكمة ذاتها لاجئة مثلنا (منّا وفينا) اجتهدت لتلمس عذر مخفف للشاب: «اليد التي لا تستطيع كسرها، بوسها وادعي عليها بالكسر»، هكذا نطقت محكمة «الأخلاق» بصوت خفيض، من دون أن تحرك شفاهها، خشية أن تلتقط كاميرات المراقبة درر أحكامها!
تبدو نرجسية المقاومة والممانعة (الوطنية السورية) تجاه الغرب والمختلفين عموماً، والانغلاق الفكري والروحي (القومي)، المرفق مع الخوف المشبع بالبطش والوعظ الأخلاقي والديني، تجاه ارتكابات النفس الأمارة بالبحث والكشف داخل وخارج ذاتها (المتفاوت دولياً)، تبدو هذه المكونات الثلاث خلطة سرية للملاط الذي يشد أزر القيود، التي تكبل البشر، فيجاهدون في حملها وتحملها، عربون وفاء أو بطاقة انتماء إلى «الوطن».
كهرباؤهم وكهرباؤنا
مؤخراً احتفلت فرنسا بمرور خمسين عاماً على آخر انقطاع للتيار الكهربائي عن البلاد، في وقت تسرع فيه سوريا إلى مهاوي الظلام واقعياً ومجازياً. بين كهربائـ(هم) وكهربائـ (نا) مناطق خطرة عالية التوتر، محفوفة بالتجاذبات، ينبغي معرفتها والدخول إليها، رغم أنها تعمل بالعكس، ورغم الهلع والشلل الفكري والروحي الناجم عن كهربت(نا) الداخلية، إذ مازالت القشعريرة المرعبة التي جمدت أوصال «باسترناك»، وهو يسمع صوت ستالين، تسري في دماء السوريين متخطية حدود الزمان والمكان.
أن تخرج من سوريا/ مملكة الخوف، لا يعني أن وحش الخوف أصبح وراءك. على العكس، ربما كان الخوف من أشد وأخصب «الحميميات» التي رافقتك! كل ما في الأمر أنك هنا والآن، تدرك كم أصبح خطيراً هذا الوحش الذي يحتلك ويفتك بك، وأنه حان أوان انفصالكما: فلكي يعيش أحدكما وينمو، على الآخر أن يتلاشى.
ضحى عاشور/ عن نوافذ المستقبل