كثافة النصّ الشعريّ أم شفافيته؟!

لا يتشكل القول الشعريّ، عادةً، إلاّ بوصفهِ استجابةً جماليةً بالغة التعقيد لعاملين متداخلين: لحظة الحياة ولحظة الشهادة عليها. ضغط اللحظة الواقعية، كونها الباعث الأول على القول، وضغط اللحظة الشعرية، بما تشتمل عليه من مكوناتٍ ذاتيةٍ وثقافيةٍ وفنية. في اللحظة الثانية تتجلّى فاعلية التشكيل الشعريّ حين يتلقّف اللحظة الواقعية، أو لحظة الانفعال بالحياة. التي لا تزال مادةً خاماً، ليلقي بها في مصهره الداخليّ، ويعرّضها لانكساراتٍ عديدةٍ، وتحولاتٍ جمّة، حتى يخلصها من شوائب اللحظة ومن تلقائيتها الساذجة، أو غبار اندفاعها الأول المتعجل.
هناك، في الداخل تماماً، تندرج هذه اللحظة الواقعية، حدثاً أو فكرةً أوتأملاً أوانفعالاً، في شبكةٍ من التفاعلات المعقـدة، الضاغطة، غير المرئية. وبعد أن تلفحها نارُ الكتابة، وتمرّ عبر مضائق اللغة، ومتطلبات البناء الشعريّ، لا تعود واقعةً فكريةً أو انفعاليةً مجردة، بل تغدو حالةً شعرية. أي أن جسدها الواقعيّ المباشر يتخلص من زوائده واستطالاته، ليكتسب، بعد ذلك، رمزيته العالية ومنطقه الخاص، وهذا المنطق لا يجسـد البرهة الواقعية كما هي، ولا يتطابق معها، بطريقةٍ فوتوغرافيّةٍ فجّـة، بل ينزع عنها صلادة الواقع ومباشرته، ويشـوّش على طاقتـها التوثيقيـة ليحولها الى لحظةٍ شعريةٍ صافية. وبذلك يضعف النسب الواقعيّ للموضوع، فلا يعود مقتلعاً من حجارةٍ أخرى غير حجارة النصّ ذاته. النص الآن هو ملتقى كلّ رفيفٍ روحيّ أولغـويٍ: اللذةُ وشحنةُ العذاب، الذاتُ والعالم، حركةُ الحياة ونضحُ المخيلة.
شحنة القول، إذاً،لا تتصدر النصّ الشعريّ، ولا تنال من القائل عنايته القصوى. فهي لا تتقدم النصّ ولا تتأخر عنه أيضاً. القول الشعريّ ذاته هو مركز الاهتمام ومبعث النشوة، والشغف، والدلالة. وبذلك لا تكون دلالة القصيدة أو موضوعها ناتئاً، أو منفصلاً عن النصّ. إنه كامنٌ هناك، في كل جزئيةٍ منه، يمكن رؤيته، وتشمّمه، والحدس به.
من المفيد والممتع، هنا، أن نشير الى تودوروف، وهو يميز بين النصّ العاديّ والنصّ الأدبيّ، فالنصّ العاديّ، حسب رأيه، هو نصٌ شفاف « نرى من خلاله معناه، ولا نكاد نراه هو في ذاته». أما النصّ الأدبيّ فعلى العكس من ذلك تماماً. إنه النصّ الكثيف، أوغير الشفاف، الذي «يستوقفك هو نفسه قبل أن يمكنك من عبوره واختراقه».
وفي تجربة شعرية بالغة الثراء والتعقيد، رغم قصرها، كتجربة بدر شاكر السياب، كان من الطبيعيّ أن تتباين النصوص، تباين مراحله الفنية والحياتية. ثمة نصوصٌ كانت تتشربُ دلالالتها أو معناها بحميميةٍ وارفة، ليكون المعنى جزءاً من تجلياتها اللغوية، والايقاعية، والمجازية، وايماءاته الثقافية. فتغدو القصيدة نصّاً كثيفاً، أو غيرَ شـفّاف، على رأي تدوروف، لا ينبيء عن موضوعه مباشرةً ولا نرى من خلاله معناه، بل تستوقفنا بنيته الحسية الثاقبة وتجليات الأداء الباذخة.
ويكاد المعنى، في قصائد أخرى، أن ينفصل عن نسيجه النصيّ والايقاعيّ، فكأنّ معنى النـصّ يظـلّ متلألئاً، صــلداً، نـاتئـاً، لم تتشربـه كتلة الـنصّ، ولم ينـدرج في مهـبّ شعريته. فاذا بنا، في هذه الحالة، أمام نصوصٍ شفافةٍ بالمعنى التدوروفيّ. إذْ إنّ اللحظة الواقعية، فكرةً أو تجربةً أو موضوعاً، تظلّ باديةً للعيان، سمكةً ترتطم في قاع النصّ باحثةً عن ماءٍ غزيرٍ يؤويها. فهي لم تصبحْ جــزءاً داخلياً، حميمـاً، وغير مرئيّ من تجليات النصّ وتموّجاته.
ولابد من التذكير أن النصّ الشعريّ هو الجماعُ الأرقى بين هاتين اللحظتين. أولحظة الإنصهار الفريدة بينهما. وفي غياب هذا الاقتران لا يكون النصّ في مأمنٍ من ذلك الخطر الحتميّ الذي يهدد القصيدة بالانشطار الى نصين، أو أكثر ربما، يتفاوتان في النبرة والبناء، ويتتمايزان في الاستجابة لضغوط المعنى، انشطارٌ داخل النصّ الواحد. وانشطارٌ ينتج عنه في الـذات الشعرية: شطرٌ يستجيب الى اللحظة الواقعية وآخر لا يجـد مبتغـاه إلاّ في اللحظـة الأخرى، لحظة التشكيل الشعريّ. بكلمةٍ ثانية، ثمة كائنٌ إنسانيّ نتبينه في لحظات التأوّه أو الهتاف أوالفرح. وكائنٌ شـعريّ يستوقفنا بتجلياته الباهرة في اللغة والتشكيل ومراوغة المعنى.
وحين نفحص، في ضوء ذلك، تجربة شعرية عميقة كتجربة بدر شاكر السياب، على سبيل المثال، نكتشف أن نصوصه تتفاوت، في مستوياتها، تفاوتاً لافتاً. في قصائده الكبرى، كان فاتحَ بواباتٍ شعريةٍ مهيبة: أنشودة المطر، النهر والموت، المسيح بعد الصلب، مدينة بلا مطر، في المغرب العربي، إرم ذات العماد، جيكور والمدينة، رسالة من مقبرة، أغنية في شهر آب.. وقصائد أخرى.
غير أنّ السياب، في بعضٍ من نصوصه، لا يكون ســياباً واحداً على الدوام، بل سـيابين متباينين فنياً ونفسياً وانفعالياً. وكأنّه ينشطر، في تلك النصوص،الى ذاتين متعارضتين: فرديةٍ وجمعية، مباشرةٍ ومتخفية، أرضيةٍ طوراً، وأثيريةٍ شديدةِ السمو طوراً آخر. ويترتب على ذلك أن النصّ يقدم، في أحد انشطاراته، تجربة الكائن الإنسانيّ كتلةً من الصراخ الفجائعيّ التلقائيّ، ضجة الانفعال وتدافع المعنى. حيث يؤكد النصّ وثائقيته، أوتطابقه مع لحظته الواقعية. أما الانشطار النصيّ الآخر فيُعنى عنايةً كبرى بمستويات البناء ومقتضيات الصقل الأخيرة.
وهكذا كانت المادة الشعرية، في بعض قصائده، تتطور، تماشـياً مع نمو طاقـتين ضاغطتين: طاقة الشعر وطاقة الكائن. طاقتان تتصادمان، في كيان الشاعر حيناً، وتتصالحان في أحيانٍ أخرى. كان الكائن الشعريّ ينحاز الى اللحظة الشعرية ومتطلبات القصيدة، فيعمل على تأجيجها فنياً وثقافياً ليصل بالمادة الشعرية الخام الى أقصى صفائها، أما الكائن الإنسانيّ فلـم يكنْ يبرح، إلاّ نـادراً، تلك اللحظة الواقعية أو البرهة الحياتيـة، المحرضة على القول، وما ينجم عنها من تشظياتٍ إنفعاليـةٍ ودلالية. هكذا كان الأمر: حين ينشر الكائن الشعريّ شباكه بحثاً عن شكلٍ ثاقبٍ لتموّجات النفس، كان المعنى يحتل موقع الصدارة، في الغالب، من عناية الكائن الإنسانيّ.
يمكننا القول، بناءً على ذلك، إن شعر السياب كان يبدأ وينتهي مع نوعـين مؤثريـن من ضغوط المعنى: وطأة الانتماء للحياة بمعناها العام في البداية، ووطأة الانحدار الى الموت في النهايات. في البداية، كانت اللحظة الواقعية، أو صوت التجربة، أي صوت الكائن الملتزم، المتفائل بالظفر حيناً، أو الناقــم على القبح السياسيّ والاجتماعيّ حيناً آخر، أعلى من صوت اللحظة الشعرية، وكانت قصائده تتفجر بلوعةٍ وطنيةٍ وإنسانيةٍ هائلة، رغم أنّ السياب، حرص على أن يوفر لبعض هذه النصوص شكلا ما، كالسرد في المومس العمياء وحفار القبور تحديدا.
وكانت تلك النصوص، في الغالب، احتفاءً بالمعنى وسعياً الى الآخر المستبد، أو الآخر الضحية، لتعرية الأول أوتعضيد الثاني. لذلك فإن الصوت الذي يكاد يطغى على صوت القصيدة، في هذه الفترة، هو صوت الكائن السياسيّ او الاجتماعيّ المتفائل أوالمضطهد،
الذي يعضّ على قيود داعياً الى حياةٍ اقلّ بشاعة. في هذه النصوص انثيالٌ عاطفيّ جارف، وانشغالٌ بما يشتمل عليه موضوعها من معانٍ وانفعالاتٍ، تتقصدها هذه النصوصٌ بالوصف، والتجلية بطريقة تتجنب، في أحيانٍ كثيرةٍ، المواربة المحببة أو التخفي الجميل.
أما في نهاياته، فقد كان السياب يغادر ذراه الشعرية العالية، نزولا الى قاع المعنى مرة أخرى.
وإذا كان احتفاؤه بالمعنى في بداياته كان بسبب وطأة الانتماء السياسيّ كما أشرنا، فإن محنة المرض في النهايات كانت سبباً في هيمنة المعنى على نصوصه ثانيةً، فقد أخلى الكائن الشعريّ المعافى مكانه للكائن الاجتماعيّ، العاطفيّ، الأعزل، المبتلى، حتى تحولت بعض قصائده الى نصوصٍ تضرعيةٍ استغاثيةٍ تطفح بالألم والشكوى.
ومع ذلك، لابد من الإشارة الى أن هذا التقسيم ليس صارماً تماماً، بل تقريبيّ الى حدٍ واضح، ففي تجرية السياب الشعرية، وهي تجربةٌ مدهشةٌ حقـاً، قــد نجـد في النص الواحـد تجـاوراً قلقـاً لأكثر من نمطٍ شعريّ. وليس هناك تقريباً مسارٌ تصاعديّ يسجل لنا التطور الفنيّ لتجربـة هـذا الشـاعـر الكبير، فهناك ارتـداداتٌ فنيةٌ كثيرة من مرحلـةٍ شعريـةٍ متقدمـة الى مرحلـةٍ أدنى.

علي جعفر العلاق/ عن القدس العربي