جريمة الصمت في زمن الصمت

عواصم ـ وكالات: قال المرصد السوري لحقوق الانسان امس الاثنين إن غارات جوية بقيادة أمريكية أصابت صوامع للحبوب وعددا من الأهداف في مناطق يسيطر عليها تنظيم الدولة الاسلامية في شمالي سوريا وشرقها الليلة قبل الماضية ما أدى إلى مقتل مدنيين وجرح عدد من المقاتلين، فيما اتخذت دبابات تركية وعربات مدرعة مواقع على تل يطل على بلدة كوباني السورية الحدودية المحاصرة امس مع اشتداد قصف تنظيم الدولة الإسلامية للبلدة وسقوط قذائف طائشة داخل الأراضي التركية.

وقال المرصد الذي يراقب مجريات الحرب الأهلية في سوريا إن الطائرات ربما اعتقدت عن طريق الخطأ أن المطاحن وصوامع الحبوب في بلدة منبج في شمالي سوريا قاعدة للدولة الاسلامية.

وقال رامي عبد الرحمن مدير المرصد الذي يجمع المعلومات من مصادر متعددة في سوريا «يبدو إن الغارات على منبج قتلت مدنيين فقط وليس مقاتلين».

وأضاف «الذين قتلوا هم عمال في الصوامع وهم يوفرون الطعام للناس» من دون أن يفصح عن العدد المحدد للضحايا. ولم يتسن التأكد على الفور من صحة المعلومات.

وقال الجيش الأمريكي انه لا يوجد دليل على إصابة مدنيين، وقال الكولونيل باتريك رايدر المتحدث باسم القيادة المركزية للجيش الامريكي «نحن على علم بتقارير وسائل اعلام تزعم اصابة مدنيين الا انه ليس لدينا أدلة تعضد هذه المزاعم». واضاف رغم ذلك فإن الجيش يأخذ مثل هذه التقارير مأخذ الجد وسيمعن النظر فيها.

وفي سياق متصل أضاف المرصد أن القوات التي تقودها الولايات المتحدة ضربت في شرق سوريا منشأة للغاز تسيطر عليها الدولة الإسلامية خارج مدينة دير الزور ما أدى إلى جرح عدد من المقاتلين.

وقالت الولايات المتحدة إنها تريد استهداف منشآت النفط التي تدر عائدات مالية على تنظيم الدولة الاسلامية.

واشار المرصد إلى أن الغارة ضربت محطة غاز كونيكو التي تزود محطة لتوليد الطاقة في حمص تمد عددا من المحافظات بالكهرباء وتزود مولدات حقول النفط.

كما ضربت الغارات الأمريكية مناطق في مدينة الحسكة في شمال شرق البلاد وعلى مشارف مدينة الرقة التي تعتبر معقلا للدولة الإسلامية.

وتمركزت 15 دبابة على الأقل وصوب بعضها مدافعه باتجاه الأراضي السورية قرب قاعدة عسكرية تركية شمال غربي كوباني.

وتحركت المزيد من الدبابات والعربات المدرعة صوب الحدود السورية بعد سقوط قذيقتين على الأقل في الأراضي التركية الاثنين. وقال الجيش التركي في وقت سابق انه رد على النيران الاحد اثر سقوط قذيفتي مورتر على الاراضي التركية.

كمن قُطع لسانه، أو أصيب بالخرس، أو افترسه العجز. هذا حال المواطن العربي وهو يشاهد صور ما يجري. بلاد مطروحة تحت قصف الطائرات، وشعب يذوق الهوان ويتجرّع الموت على ايدي مجموعات من السفّاحين المحترفين، والمأساة تتراكم فوق المأساة، بحيث صار الرثاء مستحيلاً.
ضاعت المعاني عندما لم نعد قادرين سوى أن نعلن موقفاً يغطي العجز ويفاقمه في آن معاً.
لو سئلت هل أنا مع الحرب بالطائرات التي يشنها التحالف الدولي- العربي بقيادة الولايات المتحدة، لأجبت كلا، وأكدت هذه الكلا بعشرات الأسباب، التي تبدأ بتحليلي للسياسة الأمريكية في المشرق العربي، وتنتهي باشمئزازي من لائحة الحلفاء، وخصوصا العرب، الذين لا هم لهم سوى تأبيد الاستبداد الممزوج بنسخة وهابية للإسلام.
ولو قيل لي أنت مع داعش اذاً، لأنتفضت وقلت لا قاطعة. كيف أكون مع هذه الهمجية التي تختصر تيمورلنك وهولاكو في لحظة انحطاط شاملة. كيف أكون مع الذين يذبحون ويسبون ويطردون الناس من بيوتهم، ويبيدون الأقليات، ويسحقون الأكثرية، ويحفرون قبر العرب الجماعي.
اذا لم أكن مع هذا وذاك، فأنا يجب أن أكون مع النظام السوري وحلفائه. هنا لن أكتفي بأن أقول لا قاطعة، بل سأقول أن هذا النظام الذي ارتكب واحدة من أكبر جرائم عصرنا هو عدو الإنسان. لقد حوّل بشّار الأسد سورية الى خراب، وحوّل الشعب السوري الى كتل هائمة من اللاجئين والمشردين، وحطّم واحدة من أنبل الثورات الشعبية بالقمع والوحشية والسادية والنذالة.
هكذا أجد نفسي، كالكثيرين، موقفي يتحصّن بالرفض الأخلاقي، ولا يستطيع الوصول الى الفعل،لأنني فقدت المكان الذي يمكن أن يحتضن هذا الموقف. هكذا نصير في موقف يشبه اللاموقف.الحزن الذي يجتاحنا هو حزن العاجزين. نعم فلقد استثمرت وحشية النظام عجزنا عن مواجهة الموج النفطي الذي اجتاح الثورة السورية بعد ابادة المعارضة الشعبية وسحق المظاهرات، وتحطيم احتمالات بناء جيش حرّ، عبر فرض منطق الحرب الأهلية، وتحويل سورية الى ساحة صراع اقليمي ودولي يستند الى بروز العصبيات الطائفية وتسيدها المشهد السياسي.
كلمة بلا موقف التي استخدمتها ليست صحيحة. لكن حين يصير الموقف مجرد اقتراح مبدئي يفتقر الى قوى سياسية واجتماعية يستند إليها، يصير موقفا أخرس.
فشل مشروع التغيير الديمقراطي في موجة «الربيع العربي»، يحتاج الى اعادة قراءة جذرية للثقافة والبنى السياسية والاجتماعية العربية المعاصرة، لكنه يضعنا أمام امتحان وحشية التاريخ الذي يقوده حفنة من القتلة الى الهاوية، ويستثمره نظام عالمي تقوده الولايات المتحدة وشركاؤها وخصومها من الامبرياليين القدامى والجدد من أجل تحويل ارض العرب الى حقول للموت.
في هذا الامتحان يسود زمن الصمت. صمت لا يبدده كلام ملفق لمحللين لا يفقهون شيئاً، أو صور لوسائل اعلام فضائية عربية تحولت الى احدى ادوات الجريمة.
هكذا نجد انفسنا بألسنة مقطوعة، ويحتلنا الصمت، وينتشر بيننا كلام يعبىء فراغات الصمت بما يشبه الصمت.
انا لا أمدح الصمت، لكن عندما يُطرد المواطنون من السياسة، وتتحول السياسة الى لعبة موت يتقاتل فيها السفهاء الذين يتنافسون على اذلالنا وسحقنا لا يبقى أمامنا سوى الصمت.
صمتنا هو صمت الضحايا، والضحايا يصمتون لأنهم يحفظون شرف الكلمة، ولا يسمحون للقاتل بأن يدوس على أرواحهم وكلماتهم، كما يدوس على أجسادهم.
في زمن الصمت النبيل هذا، لا يحق لنا الصمت في مسألتين:
المسألة الأولى هي العنصرية والوحشية والاستعلاء الذي يجري فيها التعامل مع اللاجئين السوريين في كل مكان وخصوصاً في لبنان.
صحيح أن جنود الجيش اللبناني مصابين بجرح عميق نتيجة أسر عشرات الجنود وذبح وقتل ثلاثة منهم على أيدي داعش والنصرة. جرح الجنود يجب أن يكون جرح كل اللبنانيين وكل السوريين. غير أن ردة الفعل وخصوصا في مخيمات اللاجئين في عرسال، التي تشبه القمع الذي يمارسه النظام الاستبدادي في سورية ضد الشعب السوري، يجب أن تدان وتتوقف.
لا نستطيع السكوت عن تصرفات همجية، مجبولة بنبرة استعلاء عنصرية، هي الوجه الآخر للداعشية. دوس الأجساد والكرامات وطرح الرجال مكبلين أرضا، والتشفّي، واحراق الخيام ليس تصرف جيوش بل تصرف ميليشيات. السفّاح بشّار الأسد حول الجيش السوري الى ميليشيا، وهذا هو السبب الأساسي في نكبة سورية، وفي نشوء الداعشية كوجه آخر للنظام.
يجب ان لا يمرّ هذا التصرف، ويجب التصدي بحزم للغة العنصرية التي تصاحبه. وأنا لا أتكلم هنا من منطلق إنساني فقط، على أهمية هذا المنطلق، بل من منطلق سياسي ايضاً، لأن هذه التصرفات ستدفع بلبنان الى هاوية الجنون الطائفي.
ارفعوا ايديكم عن اللاجئين السوريين، وتوقفوا عن بث الكراهية. السوريون ليسوا اهلنا واخوتنا فقط، بل أن مصير الشعبين صار واحداً. وعلى الميليشيات اللبنانية التي تشترك مع النظام السوري في قمع الشعب السوري ان تتعظ قبل فوات الآوان.
المسألة الثانية هي فلسطين. هناك أقلام تتكىء على القمع الذي تمارسه الأنظمة والتنظيمات التكفيرية على الشعوب العربية، من أجل تبرئة اسرائيل وتلطيف جرائمها. فالمقارنة بين وحشية القمع العربي و»اللطف» النسبي للقمع الاسرائيلي، تقوم عن وعي او عن قصر نظر بتغطية القمعين وهي تعتقد أنها تدينهما.
ان حجة القمع العربي من أجل تبرير خطاب قديم يختبىء خلف القيم الليبرالية ويسعى الى محو فلسطين من ذاكرتنا، يتناسى أن احد جذور المشكلة تكمن في النموذج الطائفي العنصري الاسرائيلي الذي افتتح زمن التطهير العرقي في العالم العربي.
ما يقوم به المستبد سواء أكان نظام آل الأسد أو دولة داعش هو تقليد لما قام به الاسرائيليون ولا يزالون يقومون به. فالتناغم بين الاستبداد الذي يهدم الأوطان وبين الاحتلال الاسرائيلي الذي يبيدها، يجعل من السكوت على جرائم اسرائيل جريمة تضاف الى جريمة العنصرية المتفشية في بلادنا.
الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين هو السرطان الأول الذي أيقظ كل أمراض مجتمعاتنا. لذا فإن مقاومة هذا الإحتلال هو شرط قدرتنا على مقاومة أمراضنا الأخرى.
جريمتان لا يمكن السكوت عنهما، هنا يقع امتحان قدرتنا على البدء في كسر الصمت في زمن الصمت.

القدس العربي/الياس خوري