دور الوعي المجتمعي في مواجهة ظاهرة السلطة والفساد

44

 

وليد جولي

هل كنتُ مخطئا؟!!

دائماً ما كانت أفكار الفيلسوف الألماني أرتور شوبنهاور محط سخرية لدي كونه ينطلق من التشاؤم وصولاً إلى التشاؤم.. هل أُقدم اعتذاري له؟ أم أبقى كما كبرت وترعرعت في كنف الثوار والمناضلين الذين شدهم التفاؤل بمستقبل يليق بطموحاتهم الثورية؟

 من خلال محاولاتي الحياتية المتخمة بالنشاط الحزبي لسنواتٍ طوال، والمنارة بمراجع فكرية تحاكي رغباتي الثورية وتزيد من طاقة الاندفاع الإيجابي لديّ، وعند كل ضائقة أحاول ألا استذكر شوبنهاور حين قال (إن الأنانية تثير قدراً من الرعب بحيث أننا اخترعنا السياسة لإخفائها. ولكنها تخترق كل النِقب وتفضح نفسها لدى كل مصادفة)..

لا تشاؤم في زمن الحصاد، لن أعتذر منه، بل سأجعلها دلالة على أن الأمور تؤخذ بالفعل وتجربة الفلاسفة عبارة عن أقوال حكيمة قد لا تترجم بمجملها إلى أفعال بقدر ما هي بحاجة إلى الإصرار في متابعة حقائقها النظرية وتحقيقها.. فالحصاد حان والمناجل مشحوذة النصل ولا ينسى الفلاح الكردي أنه سقى سنابله بدماء أبنائه، فقد ولّت السنين العجاف ولن يتمخض النضال عن فأر.. يليق بنا نحن الكرد النضال.. ولكن لا إلى مالا نهاية كمتعلق بناعورة ماء تارةً يغرق وتارةً يعانق السماء، أو كتلك البهيمة التي تدور حول مركز دائرة الناعورة وهي معصوبة العينين وفي ظنها بأنها قطعت الأميال.

النضال الحقيقي هو مواجهة الصواب للخطأ، ومعالجته وفق الثوابت والنظم التي أُنشأت أصلاً للحاجة والضرورة الحياتية والاجتماعية، لا الهروب منها وتركها عرضة للعوامل المهيأة والبيئة المواتية للفساد المتتالي مفضلاً عدم نعته بالمزمن أملاً بالخلاص منه قريباً.

ليس هناك أدنى شك في سببية ظهور الحركة الكردية كحركة مطالبة بالحقوق السياسية والقومية للشعب الذي قضى قرون من الزمن تحت نير الاحتلالات، وواجه القمع والقهر والاستبداد وكان هامش بين الشعوب ولم يرتق بالشعب الكردي ككل إلى موقع القائد، بل كانت عبارة عن شبه طفرات خرجت من رحم الواقع الاجتماعي المعبوث به، كل ذلك يجعل البديهية تطلق لنفسها العنان للبحث في خلفية ذلك.

 ألا يجب أن نعيد النظر في مسببات إخفاقاتها؟ سواءً داخلية أو خارجية منها.. وإن كانت الخارجية منها ترتكز في مجملها على هشاشة البيت الكردي وتشرذمه المستدام تاريخياً.

بقناعتي المعضلة تكمن بالدرجة الأولى في ظاهرة السلطة المورثة للفساد والتي بدورها تفتك بكافة المفاصل الحياتية للمجتمعات ومؤسساتها، وسذاجة فهمنا للحقائق الاصطلاحية بالشكل الصحيح والملامس للواقع الاجتماعي المعاش..

فحينما ننتهج الرؤية الدينية ونتخذها سبيلاً في نضالنا التحرري، فقط نتخذ منه الجانب السلطوي الطرائقي المشبع بالفساد المقنن اجتماعياً ونتجاهل فيه الجوانب الأخلاقية والتوعوية.

وحينما نتبع الرؤى العلمية أيضاً نتخذ منه الجانب الليبرالي ذي المنشأ السلطوي الاحتكاري، وحينما نتخذ الديمقراطية كسبيل في نضالنا، أيضا نتجاهل معانيها الاجتماعية الحقيقية والتي هي بالدرجة الأولى أخلاقية، ونتخذ فقط ما تشبع رغباتنا الحزبية أو العائلية أو الشخصية الضيقة وكأننا على مائدة طعام تخص حاشية من يجلس عليها ويبقى الفتات للشعب، عبر مسرحيات انتخابية وبستائر ديمقراطية لا يستفيد منها سوى الفاسد أو الجاهل للعلم والمعرفة.

 لم يقلها سقراط عبثا حين قال “اعرف نفسك” أو ابدأ من ذاتك، كان يقصد بذلك أنه لا ديمقراطية بدون وعي مجتمعي متكامل، أي من المحال تطبيق الديمقراطية المباشرة وسط مجتمع منتقص للوعي الذاتي، أما محمد(ص)حين قال (الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) كان أيضا يدعو الناس إلى معرفة الذات الألوهية المفعمة بالمبادئ والقيم الأخلاقية لا الاستناد على كلمات وحركات دونما فهم روحي لقائمها، ولينين الذي كرّر دعوته للتنظيم لثلاث مرات متتالية، وأوجلان الذي دعا إلى التدريب التوعوي مراراً وتكراراً. معظمهم بل أكاد أجزم بأن جميعهم كانوا يصوبون اسهمهم إلى ذات الهدف وذات المحور، وهي ضرورة رفع المستوى التوعوي لدى المجتمع وارتقائه إلى مستوى يتناسب والنظريات المثلى الداعية إلى حلّ القضايا الاجتماعية العالقة.

فالوعي هو الذي يستبيح الديمقراطية الحقة الناظمة للعدالة الاجتماعية بمفهومها الفعلي.

وهو الذي يجلب الأمن والاستقرار الاجتماعيين بما فيها القضية الأم ومنشأ القضايا “المرأة”.

أما جهل الإدراك الذاتي والمجتمعي فهو المسبب الرئيس في استفحال ظاهرة السلطة والتي بدورها تفتك بالنسج المجتمعية وكينونتها الطبيعية.

تلك هي المعضلة الرئيسية التي واجهت وتواجه المجتمعات وقضاياهم العالقة ومن ضمنها القضية الكردية، حيث أنها لم تستطع الانسلاخ والخلاص بذاتها عن ظاهرة السلطة التي بدورها كانت دائما تفرغ الثورات من معانيها الثورية وتضعها في خانة الثورة المضادة وتجعل هاتفيها إلى معارضين لها ونادمين على ما سبقها.

حيث يقول أوجلان في هذا السياق (إن الاقتراب الديكتاتوري السلطوي من ظاهرة الحكم قد أدى دوره المعين في إفلاس التجربة السوفييتية، وتتوارى الظاهرة عينها في خلفية الثورات الفاشلة أيضا). ويتابع.. (فحصيلة عجز تلك الثورات عن الانقطاع بأي شكل من الأشكال عن مفهوم الحكم السلطوي، إما أنها تسنمت السلطة ففسدت وماعت، أو أنها دحضت ظاهرة الحكم والإدارة كلياً، فانزلقت صوب الفوضوية الفردية، لتصير الهزيمة مآلا لا مفرّ منه)

ولاشك أنها كانت الظاهرة نفسها التي واجهت الإسلام الثقافي الثوري أيضاً، حيث أن مقولة “من دخل دار أبو سفيان فهو آمن…” لم تكن إلا بداية لنهاية الإسلام بمفهومه الثوري، وبداية انزلاقه نحو الإسلام السلطوي وما نتائجه الكارثية التي نشهدها اليوم من حيث الولادات المشوهة التي تمخضت عنها وظهور الأفكار الجهادية المتطرفة وتوسعها بالشكل الإرهابي الذي نشهده الآن إلا مثال على ذلك.

وهكذا فأنه من المحال التفكير بنجاح أية ثورة أو حركة شعبية أي حزب سياسي، أو مؤسسة من المؤسسات الاجتماعية، ما لم يتم العمل على معالجة ظاهرة السلطة بمفهومها المتآكل والمهترئ، فهي كالخلية السرطانية، تبدأ وحيدة وصغيرة ثم تكبر لتقضي على كامل الجسد.

ولا شك أن الفساد هو الوجه الخافي للسلطة، فإذا كانت السلطة استغلالاً اقتصادياً مركزاً وطاقة كامنة، فأن الفساد هو الحامل والمورث التقليدي لظاهرة السلطة، فهما متلازمان ولا ينفصلان عن بعضهما.

وللنظر في واقعنا الإداري والمؤسساتي والحزبي، سنجد أننا لسنا بمعزل عن كل ما سلف أن لم نقل صادقين أننا وقعنا في ذات الفخ ووضعنا قدماً ونصف في شِراكه، فالسلطة في وضعها المتصاعد والمطبق بوتيرة تبعدنا عن مقصدها الحقيقي بكونها خادمة لا مخدومة. والفساد الذي يستشري في كافة المفاصل الحياتية، بحيث يكاد أن يكون شكلاً من أشكال الإدارة الطبيعية.

أما الثورة ومعانيها فإن لم يتم تداركها فسوف تتجه نحو الانطواء على ذاتها تحسبا لهيمنة السلطة على مقدراتها، لتعيد النظر بالتالي في قيامها وجدوى وجودها، من خلال الاقتداء بميراثها وثوابتها الأخلاقية والروح المعنوية العالية بضرورة خلق مجتمع واعي ديمقراطي يسوده المساواة والعدالة الاجتماعية.

مما يدعو ذلك إلى التفاؤل الذي عبر عنه الشهيد الثوري مظلوم دوغان في مقولته الشهيرة “المقاومة حياة ” وما عبر عنه أيضا الشهيد م. خيري دورموش الذي تجاوز الخيال بوصيته التي نطقها بعد ستين يوما من الإضراب والمصحوبة بأنفاسه الأخيرة” اكتبوا على قبري أنا المديون لكردستان” وما علينا سوى الأخذ بأقوال وأفعال أولئك الثوار  كنبراس حاز على بريقه من تجربة ونضال خاص بالأمة الكردية بشكل خاص والفكر الثوري العالمي بشكل عام ليدفعنا نحو تحقيق الأهداف المنشودة.

نشر هذا المقال في العدد /83/ من صحيفة Bûyerpress بتاريخ 15/8/2018

 

 

التعليقات مغلقة.