العشائرية والصراع الراهن في الجزيرة السورية

25

Nawafezc12 2.gif

 

 

 

 

 

 

 

منذ صعود داعش في سهوب الجزيرة السورية-العراقية، وتحول المنطقة إلى بؤرة اهتمام سياسي إعلامي، فأن شبكة من العلاقات المعقدة والمركبة بين البنية الاجتماعية والتيارات السياسية تظهر في تلك الجغرافيا، التي بقيت مجهولة وقصية لعقود طويلة، عن مجمل المتن السياسي لدول المنطقة.

قبل عقد من الزمن، عقب أحداث انتفاضة الأكراد عام 2004 في سوريا، فأن منطقة الجزيرة تحولت إلى مركز سياسي حساس في الحالة الداخلية السورية. الملاحظ منذ وقتئذ، أن التمثيل السياسي للمجتمع المنحدر من ذلك الإقليم السوري كان مؤلفاً من قطبين هما على طرفي نقيض، فبينما كان الكرد يمثلون ويخاطبون عبر أحزاب سياسية منظمة وشعبية، وهي كانت حالة فريدة واستثنائية في عموم سوريا، فإن المجتمع العربي كان يُمثل عبر شخصيات وزعماء عشائريين، وهي أيضا كانت حالة فريدة عن عموم المتن السوري!.

بالرغم من التطابق شبه التام بين المجتمعين العربي والكردي في منطقة الجزيرة السورية، اقتصادياً وثقافياً ودينياً-مذهبياً، إلا أن حضور العشائرية كديناميكية للتراتبية والعلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية المجتمعية، مازال مؤثراً وحقيقياً وحيوياً في المجتمع العربي بالجزيرة السورية، مقابل خفوتها وثانويتها في المجتمع الكردي السوري، ويعود ذلك لثلاث أسباب متراكبة:

صحيح، أن النمط الاقتصادي الزراعي كان مترافقا تقليديا مع تشكل قوي للروابط والتراتبية العشائري، مترافقاً مع انتشار للطرق الصوفية والمشيخات الدينية التقليدية في منطقة الجزيرة السورية، في كلا المجتمعين العربي والكردي، منذ نشأة الكيان السوري. لكن المجتمع الكردي السوري التقليدي تطعم بطبقة كردية مدنية بالغة الحيوية، جراء نزوح الكثير من النخب الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الكردية من تركيا نحو سوريا. حدث ذلك بعيد فشل الثورة الكردية عام 1925 (ثورة الشيخ سعيد بيران)، حين مارست السلطات التركية وقتها نوعاً من العقاب القاسي بحق الطبقة الاقطاعية والبرجوازية والمدينية المتعلمة الكردية في تركيا، إذ كانت السلطات التركية تعتبر تآلف تلك الطبقات الكردية هو السبب التكويني لاندلاع الثورات والتمردات في المناطق الكردية، فطبقت بحقها سياسات عقابية قاسية، الأمر الذي دفع بهؤلاء للنزوح نحو سوريا، التي كانت تشكل نوعاً من الحماية بالنسبة لهم بسبب الوجود الفرنسي وقتها.

استقرت هذه الطبقة في المدن التي باتت ذات اغلبية سكانية كردية، وأحدثت تغيرات نوعية في المجتمع الكردي السوري، خصوصا في فترة الخمسينات من القرن المنصرم، عقد الحريات السياسية والمجتمعية السورية. على النقيض من ذلك، فأن النخب المجتمعية الثقافية والاقتصادية العربية الصاعدة في المجتمع العربي التقليدي، هاجرت نحو مدن الداخل السوري، وإلى مدينة حلب تحديداً، طالما أنها لم تكن تمتلك أية تناقضات ثقافية ووجدانية بين العيش في منطقة الجزيرة أو مدن الداخل السوري .

جغرافياً، كان ثمة فارق جوهري ساهم بتشكيل تفارق بين الحالتين الكردية والعربية، ففي حين يشغل الكرد معظم الشريط الشمالي من الجزيرة السورية، الجزيرة العليا، يشغل العرب الشريط الأدنى من الجزيرة. كان لذلك تأثيران جوهريان، فمن جهة، جاور الكرد الأرمن والسريان واليهود في ذلك الشريط الأعلى من الاقليم، ما أثر على المجتمع الكردي ووعيه بحالته المجتمعية، فالأرمن والسريان الذين كانت لهم كنيستهم التاريخية، والتي منها تشكلت مؤسساتها «المدنية»، كالنوادي الرياضية والفرق الكشفية ومؤسسات الكفالة الاجتماعية والطبية .. الخ، وهو تأثير لم يخضع له عرب الجزيرة بالسوية ذاتها منذ الأربعينات من القرن المنصرم .

الأمر الآخر تعلق بطبيعة الأراضي في الجزيرة السورية الشمالية، فهي كانت الأكثر خصوبة، ونسبة الهطولات المطرية فيها عالية، ساهم اقتصاديا باندفاع طبقات كبيرة من المجتمع الكردي السوري نحو التعليم، وخلق طبقة وسطى فيما بعد، لكن عرب الجزيرة جنوباً كانت أراضيهم أقل نتاجاً وعوائد وكان ريفهم أكثر فقرا، وهذا ساهم بالحفاظ على أشكال من التراتبيات الاجتماعية، بغياب الطبقة الوسطى والمتعلمة والبيروقراطية .

العامل الأخير لتفارق الحالتين الكردية والعربية، وبقاء العشائرية حيوية في المجتمع العربي في الجزيرة السورية وضمورها في الأوساط الكردية، تمثل في النمو الاجتماعي الذي اصاب الشريحة الأوسع من الريف الكردي منذ بدايات الستينات :

فقد تركب وعي قومي كردي «حداثوي»، كان يجد في التعليم حاجة ماسة، مع بنية دولتية شبه مركزية ترعى المؤسسة التعليمية بشكل مقبول. هذان العاملان بدءاً بالتأثير والفعل في المجتمع الكردي السوري مع بداية الستينات، لكن نتائجه الفعلية ظهرت مع بداية التسعينات، وهي ظاهرة لم تطل عرب الجزيرة السورية بالسوية ذاتها، فبقيت البنية التقليدية (العشائر والطرق الدينية) فعالة للغاية في أوساطهم، حيث استطاعت السلطة السياسية السيطرة على البيئة الريفية العربية، عبر «بعثنة« المجتمع، بسهولة أكبر من قدرتها على اختراق البيئة الكردية. لذا، فان هذه التنمية المجتمعية، دفعت بالكثير من الكرد للنزوح نحو المدن، ذات مستوى الخدمات الأوسع، وبالذات مدن الجزيرة السورية.

ما يقصد هنا أن النزعة القومية الكردية، التي كانت تتعارض مع نزعة السلطة والدولة في سوريا، لأن الأخيرة كانت مبنية على الخطاب القومي العربي، ساهم في خلق خطاب ووعي مضاد لخطاب السلطة، ولم يسمح للسلطة بالاختراق والسيطرة المجتمعية على البيئة الكردية، حيث كان التحكم ودعم الزعماء المحليين التقليديين، زعماء العشائر، من أهم أدوات السلطة السورية للسيطرة، وبالذات منذ بداية حُكم حافظ الأسد في السبعينات .

راهناً، فإن هذا التفارق في بنية المجتمعين الكردي والعربي في الجزيرة السورية، يؤدي إلى نتيجتين أكثر «فظاعة» من حالتهما التقليديتين . فالمجتمع العربي الذي بقي محافظا على أشكال من التراتبية والحضور للنزعات العشائرية في أوساطه، يبدو جاهزا للانزياح نحو التيارات الدينية المتطرفة سياسياً، وبالذات السلفية منها، وهو أمر حدث على دفعات، منذ تحول الجزيرة السورية إلى معبر ومظلة لتغطية تفاعل النظام السوري مع الحالة العراقية عقب حرب عام 2003. فاختراق الجماعات الدينية السلفية «العنفية» لبنية المجتمع العربي في الجزيرة السورية يبدو بالغ السهولة، لغياب الطبقة الوسطى والمتعلمين والاستقرار المديد في المدن، نسبيا .

على الجانب الكردي، فإن فرط النزعة الحزبية والتسيس المجتمعي، هيّأ هذا المجتمع للانخراط في خطاب قومي انفعالي، قد يتدرج نحو فاشية مجتمعية ونخبوية تجاه عرب الجوار، ويسهم في خلق عزلة سياسية ومجتمعية عن عموم الفضاء السوري.

إن فتح المجال العام في سوريا مستقبلا، سيشهد من دون شك حضورا وديناميكيات مجتمعية على اُسس عشائرية، وستكون الجزيرة السورية أحد أهم هذه الساحات، لكن الأكيد، أنه بالتقادم، سيكتشف الأفراد مساحات ومشتركات أكثر أهمية وحيوية تجمعهم، من أساطير «الدم المشترك«.

عن نوافذ المستقبل/ رستم محمود

التعليقات مغلقة.