أدونيس : انتصار التكفيريين انتصار ضد الدين والتاريخ وبلعبة استعمارية / المسألة تخطّت النظام السوري إلى لعبة استراتيجية للدول الكبرى وأصبح جزءاً منها

37

P04-01-N25258-640_755848_large

 

 

 

 

 

 

قليلاً ما يطل على بيروت، لكنه عندما يأتي لا يمر مرور الكرام. كلمته ومواقفه مثل حجر ينزل في مياه راكدة. يساعده بعده في رؤية الاشياء من دون ضغوط محلية وآنية. مواقفه من الثورة السورية اخيراً كانت محور جدل اشعل السجال بين المثقفين وعلى صفحات الجرائد والفايسبوك. 24 ساعة امضاها الشاعر والمفكر أدونيس (علي احمد أسبر) في جبيل للمشاركة في مؤتمر “الحوار، والحقيقة والديموقراطية” في ” المركز الدولي لعلوم الانسان”، كانت فرصة للقاء مع “النهار” ليحكي ويستفيض في الثورة والانسان.

– كيف ترى اجواء العالم العربي من فرنسا؟
– هناك بصيص امل في التغيير الضروري، في القاهرة خصوصاً، وفي تونس الى حد ما. للمرة الاولى في تاريخ العرب الحديث، تجد نظرية من يدافع عنها في الشارع. والافكار مثل الدولة المدنية والمواطنة وحقوق الانسان وحرية المرأة، تجد من يجسدها في الشارع. هذه نقلة بديعة أرجو ان نعمل جميعاً على تعميقها. اما الجانب السلبي فهو ان ما يحدث في العالم العربي من قتل وتشويه ونهب وسرقة وتدمير، لم يحدث مثله في تاريخ العالم، الى درجة يستغرب الانسان ويتساءل من اين تجيء هذه الوحشية؟ وحشية ضد الانسان، ضد الافكار، ضد الحياة اليومية ، ضد الشجر، ضد الفضاء. من اين تأتي هذه الوحشية؟
– وماذا عن سوريا؟
– سوريا والعراق أيضاً، هما جزء من هذه الصورة القاتمة، لكن يجب ان نظل آملين في ان الضوء سينتصر. هناك شيء آخر نراه هو ان الديموقراطية الغربية فقدت بعدها الاخلاقي بانتصارها الكامل لهذا التوحش بالوقوف مع الانظمة الاكثر رجعية في هذا العالم، ولا تساعد الديموقراطيين ولا الحركة الديموقراطية. اتساءل ما هذه الديموقراطية المفصلة كأنها من اجل الغربيين وحدهم ولا تأبه لغير الغرب؟ فهي تتردد مثلا في تعميق لبنان وتحصينه، وهو البلد الوحيد بين البلدان العربية، وقد يكون على مستوى العالم، الذي تتلاقى فيه، موضوعياً لا نظرياً، تيارات كثيرة اثنية وعرقية ودينية، جديرة بأن تبني نموذجاً لبلد المستقبل. لبنان لا يكتمل لأنه مشروع للمستقبل، هو بلد مستقبل، يٌبتكر دائماً، يٌخلق من جديد دائما، كما يٌخلق الحب.
– هل لا يزال كما كان؟
– لهذا اتساءل لماذا الديموقراطيات الغربية، وخصوصاً فرنسا، لا تدرك هذه الحال؟ كأن الديموقراطية تمارس في الداخل الاوروبي، أما في الخارج الاوروبي فتمارس اشياء اخرى.
– ماذا يجب ان يفعل الغرب تجاه الحركات الديموقراطية في العالم العربي عموماً، ولبنان خصوصاً؟
– ان يدعم كل ما هو ديموقراطي، بكل بساطة. ويجب تشجيع هذه الحركات، والوقوف بجانبها. انا صرت اخشى واتساءل عما اذا كانت اوروبا لا تحتقر العرب!

فشل التنويريين
– 50 عاما وانت تكتب من اجل خلق فضاء مدني وعلماني في العالم العربي، هل تعتبر ان كل عملك ذهب هباء ووصلت الى طريق مسدود؟
– لا، ليس هناك طريق مسدود الا في العقل المسدود. الطريق دائما نحو المستقبل مفتوح. هناك عقبات وعوائق، واذا لم يكن كذلك، فهناك مشكلة. انا دائما متفائل، وأكثر من متفائل. المستقبل افق اساسي في حياتي، واشعر بان كل ماضيَّ هو نوع من التمرس للاحتفاء بالمستقبل.
– في ظل تنامي الحركات الاصولية، وهذه الوحشية التي تتكلم عليها، بماذا لا تزال متفائلاً؟
– الحركات الاصولية ليست نابعة من قلب المجتمع، بل هي حركات موجهة ومسيرة من قوى اجنبية. هي تشبه النباتات المصطنعة التي اذا قطع عنها الماء والمدد تنتهي كلياً. بتقديري كل هذه القوى الوحشية هي صناعة غربية لا قيمة لها. بالأمس، خلقوا بن لادن و”طالبان” لمحاربة الاتحاد السوفياتي، والآن لأن طالبان تريد شيئاً، تغير موقف الغربيين. يا للأسف، اقول ان المشكلة بالنسبة الي ليست كيف يمكن الغرب مع القوى الرجعية العربية، ان يخلقوا هذا النوع من الحركات المدمرة والمحطمة، بل هي: كيف يقبل العرب بأن يكونوا مطايا وآلات لهذه القوى الغربية؟ كيف يمكن ان يقبل انسان ان يكون مسيراً بآلة غربية؟ المشكلة ليست سياسية خارجية فحسب، بل هي بسيكولوجية في الفرد العربي. كيف يحدث هذا؟
– اليس العنف الذي نشهده دليلا على فشل المشاريع التنويرية؟
– انه دليل على ان فهمنا لمجتمعاتنا كان ضيقاً وقاصراً. لم اكن افكر او اتصور ان مواطناً سورياً وعربياً يبقر بطن امرأة حبلى، ويخرج الجنين، ثم يقتلها. لم اكن اتخيل ابداً ان يأتي واحد، باسم الثورة والدين، ويذبح انسانا باسم الله الرحمن الرحيم، ويقطعه ويضعه في كيس، ويرسله الى اهله. كان الأمر مفاجئاً لي، لم اكن اتخيله. هذا يؤكد اننا كنا قاصرين في فهم عقلية شعبنا، وفي فهم وضعه، وفي فهم الصراع الدولي. كنا قاصرين في التحليل، لعل هذه التجربة تساعدنا لنكون اوسع نظراً، واعمق في التحليل.
– لماذا كل هذه الوحشية؟
– لست ادري. هذا جزء من الثقافة العربية التي اسميها ظاهرة بسيكولوجية، اكثر مما هي ظاهرة بحث وتحليل. جزء من هذه البسيكولوجيا يجب على المحللين النفسيين ان يعيدوا النظر فيها.

لست مشروعاً علوياً
– من يقومون بهذه الاعمال الوحشية ليسوا سوريين، بل غرباء من اصقاع الارض؟
– ولكن يسكت عنهم الجميع، ولا يستنكرون اعمالهم.
– ما النداء الذي توجهه الى النظام السوري، وانت تنتمي الى المذهب الديني نفسه، من اجل انقاذ ما تبقى من سوريا؟
– هناك تصحيح. انا ولدت علوياً، ولكن ليس لدي اي مشروع علوي. الانسان يكون طائفياً، اذا كان لديه مشروع طائفي. الانسان ليس مسيحياً او سنياً او علوياً او شيعياً بولادته. الانسان يكون سنياً او شيعياً او مارونياً بمشروعه. انا منذ طفولتي ضد الطائفية، وفي الحزب السوري القومي الاجتماعي، هذه مسألة مفروغ منها كليا. وأنا ضد الاديان، بمعنى المؤسسة، لكنني مع المؤمنين واحترم ايمانهم الديني كاملاً. لست ضد الدين والايمان الفردي اطلاقا، لكنني ضد الاديان المسيَّسة، والتي تفرض نفسها كمؤسسات على المجتمع.
– وما النداء الذي توجهه الى النظام في سوريا؟
– هل المسألة باتت محصورة في النظام؟ اعتقد ان المسألة تخطته الى لعبة استراتيجية كبرى للقوى الكبرى، واظن ان النظام اصبح هو أيضاً جزءاً من اللعبة.
– وأي نداء توجهه الى الاطراف المتقاتلة، والى الشعب السوري لانقاذ بلده؟
– حتى الآن الشعب السوري، ككتلة شعبية، لم يدخل المعركة. هاجر، وترك بيته، وتشرد، لكنه لم يدخل عمقياً في ما يدور في سوريا الآن. لا توجد كتل شعبية تسمى بكتل ثورية.
– من يحارب اذن في سوريا؟
– هناك مسلحون مدعومون بالمال وبالسلاح وبكل ما يريدون. هذا أمر معروف. وايديولوجيتهم دينية. الشعب السوري ليست عنده ايديولوجيا دينية، بل هو يقاتل من اجل الحرية والعدالة، لكنه لا يقاتل من اجل اقامة نظام ديني أو امارة دينية. الشعب السوري متقدم جداً.
– هل ما تقوله يعطي النظام السوري مبررا لاستعمال الطيران والقتال بهذا الشكل العنيف؟
– كلا انا ضد هذا الأمر. هناك الآن طرفان: واحد يهاجم، وآخر إما يستسلم او يهاجر. ثم لنفرض ان النظام يريد الاستقالة، فلمن يستقيل؟ لمن يعطي الحكم؟ الأمور غامضة، وخرجت من السيطرة الكاملة لهذا الطرف او ذاك. صارت لعبة متكاملة ومتشابكة مع الاستراتيجيات الدولية.
– وما الحل في رأيك؟
– لو كنت املك الحل لما كانت مشكلة. ولكن آمل ألا تنتصر القوى الدينية التكفيرية. اذا انتصرت هذه القوى، فسيكون انتصارها اولاً ضد الدين وليس الدين، وثانيا انتصارا بلعبة اجنبية استعمارية، وثالثا انتصارا ضد التاريخ.

أزمة الغرب
– ما رأيك في هذا الصمت المسيحي والاسلامي المريب تجاه ما تتعرض له معلولا؟
– هذا الصمت اكثر خطورة من العمل ذاته، لانه ليس تعبيرا عن القبول الضمني فحسب، بل كأنه يعطي شرعية لهذه الاعمال الاجرامية.
– كيف يمكنك والنخب الأخرى التي تعيش في الغرب ان تساعد الدول العربية مثل سوريا ولبنان مع دول الغرب؟
– الغرب لا يكترث للعرب، لا يهتم الا بمصالحه. هناك بعض المثقفين يفهمون ذلك، ولا يستطيعون ان يفعلوا شيئاً. يتحدثون في الغرب مثلا عن حقوق الانسان والدفاع عنها، هناك بلد وشعب يموت يومياً منذ 50 عاما هو الشعب الفلسطيني، ويُطرد ابناؤه من بيوتهم واراضيهم وحقولهم. هذا أمر لا مثيل له في التاريخ الحديث كله. اذا كنتم في الغرب تدافعون عن حقوق الانسان، دافعوا عنه.
– انت فاقد الأمل من الغرب؟
– كلا ليست مسألة فقدان أمل. الغرب يمر بأزمة كبرى، ليست اقتصادية فقط بل ثقافية ايضاً، وازمة رؤية الى الانسان وعلاقته بالعالم، وهذه الازمة تتجلى ثقافياً وسياسياً. لكن ما يحفظه، وهذا ضمانه حتى الآن، هو العلمنة، وهذه اهميتها، وأن مؤسساته لا تزال مستمرة، وهناك احترام، ضمن بلدانهم، للحريات. ولكن خارج بلدانهم، هناك ازمة علاقة مع العالم.
– البعض يعتبر ان الحرب العالمية الثالثة هي هذه الحرب السنية – الشيعية التي يعيشها العالم اليوم، وهي التي تولد كل هذا الارهاب. هل تعتقد ذلك؟
– الحرب العالمية لم تتوقف اصلاً، لكن خصوصيتها الآن انها حرب عربية – عربية، واسلامية – اسلامية. والعالم كله الآن في قلب هذه الحرب المشتعلة بين العرب والعرب، وبين المسلمين والمسلمين. انه نوع من التدمير الذاتي.
– وأين اسرائيل من كل هذا؟
– موضوعياً تشعرين بأن كل العرب الى جانب اسرائيل. كل العرب يقفون في الصف الذي تقف فيه اسرائيل، بحجة هذا الشق الشكلي بين السنة والشيعة.

مواقف اوباما مشرفة
– هل ما زلت قومياً اجتماعياً، او على الأقل لا تزال تؤمن بفكر انطون سعادة؟
– كل طفولتي المدرسية كانت في الحزب، لكنني لا اعمل في السياسة الحزبية الآن. اعتقد ان انطون سعادة هو اهم شخصية فكرية في تاريخ العرب الحديث، وافكاره هي الوحيدة التي اثبتت التجربة انها صالحة، خصوصاً انه قرن كلامه بالفعل. مات من أجل افكاره.
– في السنوات الفائتة كانت هناك مشاريع صلح بين سوريا واسرائيل، وشاع يومذاك انك قد تتقاسم جائزة نوبل للآداب مع كاتب اسرائيلي. ما حقيقة الأمر؟
– لم أفكر يوماً بجائزة نوبل، بل افكر باستمرار كيف اتجاوز نفسي، وكيف اكتب اشياء اجمل مما كتبت سابقاً. هذه شائعات تطلق، ولا تعنيني بأي شيء. هناك يهود متميزون وكبار واصدقاء، ولا يجوز الخلط بين يهودي واسرائيلي. انا أميز بين الشعب اليهودي وبين السياسة الاسرائيلية. هناك يهود ضدها ويحاربونها اكثر من العرب. هذا امر لم يعرض علي، يمكن ان يطرح مع شخص فلسطيني، ولكن ليس مع شخص ليست له علاقة.
– هل التمييز بين اليهودي والاسرائيلي متأت من عيشك في الغرب؟
– كل عمري اميز بين اليهودي والاسرائيلي، اسرائيلي بالمعنى السياسي ايضاً. من زمان وانا اقول بالسلام بين الفلسطينيين واسرائيل، لاننا لا نستطيع ان نحارب قوة نأخذ سلاحنا منها.
– ما هي نظرتك الى أميركا؟
– أميز في المستويات. هناك المستوى الثقافي، والمستوى السياسي، والمستوى الشعري. انا ضد السياسة الاميركية جملة وتفصيلاً، لكنني اعتقد ان مواقف الرئيس باراك اوباما الأخيرة حين امتنع عن شن الحرب مثلاً، واعطى الديبلوماسية مجالاً وفرصة، وحواره مع ايران وغيرها، والتي انتقدوه وقالوا ان فيها ضعفاً، هي مواقف تنم عن رؤية ثقافية عميقة، وستكون تاريخياً شرفاً هائلاً لأميركا.

عن النهار اللبنانية

التعليقات مغلقة.