الكردي إذ يطير – طه خليل

120

طه خليل

كنت وأنا صغير أسمع همساً في قريتنا “خزنة “، كان الناس يتحدثون عن طيران الشيوخ الحزرتيون .. وذات يوم روى لي أحد الملالي عن عمي الشيخ عزالدين الخزنوي.. فقال: إنه في كل ليلة كان يمتطي ظهر أفعى ويطير صوب الجولان لمقاتلة الاسرائيليين اثناء حرب اكتوبر.. ويعود في الصباح إلى تل معروف حيث بيته ومرقد آبائه.. وكان يشارك في ثورة البرزاني أيضا وأيضا ليلا وعلى ظهر الأفعى… وكنت أحاول تصور المشهد.. عمي الخزنوي على ظهر أفعى تلعب الريح بجبّته الرصاصية وهو يقطب بين جبينه كقريبه العليكي صوفي برهيم كزالي.. وقبل أن أخلد للنوم أدعو له بالسلامة راجياً ان يعود كل صباح من المعارك سالما غانما.

وفي تل معروف درست الإعدادية، ( أنا وأخي ) كان والدي مصرّا على تل معروف وليس قامشلى التي كانت حلما لي، وشرح لي والدي سبب رفضه للدراسة في قامشلو قائلا:

 ” أعرف ان الدراسة في قامشلى قد تكون أفضل، ولكن ليست أخلاق المدينة بأفضل من أخلاق الريف، ومما أخشاه ان ترافق رفاق سوء فترتدي مثلهم بنطلونات ” الشلستو” والسموكي وتطيل شعرك كالـ …….؟ وترتاد السينما، ولا سمح الله قد تشرب الخمر ايضا، وقد أسميتك طه بعد إن بحثت عن اسمك في القرآن، كما تعرف كانت أمك قبل ولادتك لا تلد إلا البنات، خمسة بنات بالتتالي، وحين جئت على غفلة من توقعاتنا، خفنا أن يخطفك ملك الموت، فقررت أن أختار لك اسما مباركا، ليحميك، وفتحت القرآن لا على التعيين لأختار، وسبحان الله ما إن فتحت دفتي القرآن حتى كانت أمامي ” سورة طه “، وتوكلت على الله واخترت لك الاسم” وأكمل:

 ” طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى” .

وحمدت الله في نفسي يومها إذ لم تكن السورة هي  ” سورة البقرة ” ترى أية حيرة كان ستتلبس الأب العنيد.؟! وماذا كان سيسميني.

ودرست في تل معروف، وفيها كان الشيخ عزالدين الخزنوي و له أتباع ومريدون من كل أصقاع الأرض، يأتون أفواجا للتبرك به، والصلاة خلفه، كانت تل معروف تخلو من أية سلطة سياسية، لا مخفر شرطة، ولا مكاتب للأحزاب ولا مظاهر للمجون أو السفور، كانت القرية هادئة، رغم الكبت المعشش في الصدور.

كان طلاب ” العلم والفقه ” يأتون إلى تل معروف لتلقي علوم الدين، لسنتين أو أكثر ثم يعودون إلى بلداتهم كملالي وفقهاء يرشدون الناس إلى دين الله، وفي السنوات الأخيرة كان عدد الطلاب العرب يزداد في القرية، فقهاء من دير الزور والميادين والبوكمال ومحافظة إدلب، وأريحا ( سمعت باسم أريحا للمرة الأولى في تل معروف ).

أساطير كثيرة حيكت على حياة شيوخ آل الخزنوي، كالطيران ليلا والوصول الى الكعبة ومن ثم العودة في الليلة نفسها، وهناك من كان يقسم أنه شاهد الشيخ طائرا بجناحين من نار ونور في الظلماء وهو يغادر القرية إلى جهة مجهولة، ليعود فجراً ويؤم الصلاة بالمؤمنين في جامع القرية الكبير.

كان خيالي يشطّ ليلا، وأتسائل ليتني أمسك بتلابيب الشيخ ذات مرة، وأحلق معه، لست ثقيلا.. ولن يشعر بي، سأفتتح السموات معه، وأصل النجوم،  واقتطف من الغيم قطعة، وأعود معه، لأذهب الى مدرستي مارا بجانب بيت فتاة كنت ألمحها خطفا وراء باب الحوش، فلعل نورا مني يجرها نحوي، لكن ذلك لم يحدث..

ومرت السنوات، وتشتت شمل آل الخزنوي وتبدّلت تل معروف وغزاها ظلاميو الصحراء فدمروا مساجدها ومراقدها، وعبثوا بمرقد الخزنوي حقداً على نقائه، مرددين: ” كيف لكردي أن يعلم العرب ديانتهم..؟”

واليوم.. رأيت مقاتلا كرديا يطير.. يطير حقيقة وبلا معاونة من أفعى.. يطير ويعلو وحتى قطع الحجارة والحصى العالقة بين أصابعه أسمعها تسقط وترتطم بالأرض… كيريللا يطيرون.. يطيرون من تل أبيض إلى تل كوجر ومن جل آغا وتل علو إلى سرى كانيي ومن بوطان إلى قنديل إلى كركوك إلى شنغال.. إلى قمم كردستان.. يطيرون حيث يشاؤون.. أنهم أحفاد شيوخ طاروا من قبل.. الشيخ سعيد بيران وأحمد الخزنوي وعبدالغني ومعشوق الخزنوي وملا مصطفى برزاني.. ومظلوم.. .. وصولا إلى صلاح الدين الأيوبي الذي طار إلى بيت المقدس وأسرى من هناك إلى الشام.. إييييييييه يا أحفاد يطيرون ويسابقون الريح والغيم.

كل مساء وكل نهار أسمع حفيفا لأجنحة هؤلاء الطيور وضوء ما يرافقهم، هو ضوء روجافا، الضوء الذي لم يعدّ يمرّ على عيني، وتركني للوحشة، لأصير مثل يعقوب أعمى وكظيم على يوسفه.

التعليقات مغلقة.