من يستطيع إلغاء الاستفتاء..؟

55

ضرورة الاستفتاء والحاجة إليه لم تكن أقل أهمية من فعل الاستقلال، بالنسبة لشعب جنوب كردستان. فقد أسس لشرعية الإرادة العامة لشعب كردستان وكرّسها لأول مرة في التاريخ٠ ولن يكون بمقدور أي سياسي أو زعيم أن يحيد عن هذه الإرادة وشرعيتها أو يتنصل بعد الآن. فهذه الشرعية هي سابقة على أية شرعية سياسية أو دستورية وأكثر أصالة منها. الاستقلال سيكون تحصيلاً حاصلاً لهذا الفعل، سواء تحقق عاجلاً أم آجلاً٠

من هنا كان إنجاز الاستفتاء في وقته، دون تأجيل أو تسويف، حتميا، بالرغم من العواقب السياسية والاقتصادية التي تضافرت في وجه الإقليم دفعة واحدة. وقد اتخذ منها معارضو الاستفتاء داخل للاقليم ذريعة لانتقاداتهم. علماً بأن نوايا بغداد كانت واضحة منذ أمد غير قصير بأنها ستقدم على حصار الإقليم وتقويض أسس استقراره ناهيكم بأن شطرا كبيرا من هذه التحديات التي أعقبت فعل الاستقلال ناجمة عن فشل إدارة الحكم في الإقليم والمحاصصة الحزبية الصارخة التي كرست الانقسام ليس الإداري فحسب وإنما أيضا الانقسام في القرار السياسي القومي.

في الجانب الآخر العراقي، خشي المعارضون. ولاسيما أوساط نخبة للحكم والأحزاب الشيعية من إجراء الاستفتاء أكثر من فعل الاستقلال بالذات، فقد أدرك هؤلاء أن مطلب الاستقلال المعزز بشرعية الاستفتاء لن يكون قابلاً للمساومات السياسية لكن هذا الطلب سيكون قاصراً وعاجزاً عن التحقيق في حال افتقد لشرعية الاستفتاء.

الدول الثلاث إيران تركيا العراق. اسطبلات سايكس ييكو، تضافرت معاً، اتحدت إرادتها العدوانية مباشرة في حلف غير مقدس، ضد إرادة الكرد وشرعية خيارهم، لم يكتفوا بإعلان تجميد نتائج الاستفتاء من جانب حكومة الإقليم، بل تمادوا بكل غطرسة وعنجهية مطالبين بإلغاء مبدأ الاستفتاء بالذات، دونكم نتائجه، أرادوا بذلك تحطيم إرادة شعب كردستان وإركاعه.

محال على شعب أن يكون سيدً ومستقلاً وهو جاث على ركبتيه، لقد نهض شعب كردستان في يوم25 أيلول وتحدى الأسوار التي قيدت حريته، اختار حريته وكرامته رافضاً الإذعان لأحد، وكانت ردة فعل تلك الدول بمثابة عقاب جماعي وانتقام يرقى لجريمة حرب الإبادة، وقد أظهرت وقائع الأيام التالية أيضا نفاق المجتمع الدولي وازدواجية معاييره، فمن يقف في وجه شعب تواق للحرية تحت أية ذريعة كانت، لابد وأن يكون مجرداً من إنسانيته.

 ثني إرادة شعب والمصادرة على قدرته الحرة في تقرير مصيره، ومن ثم تطويعه في حظائر العبودية التي فرضتها عليه سايكس/ بيكو هو ما كان ينشده الحلف الفاشي ( الإيراني/ التركي/ العراقي) إلى جانب الزعيق الهامشي لنظام بشار الاسد.

ما يمكن ملاحظته واستنتاجه من وقائع ما قبل الاستفتاء وبعده أن الكرد عموماً وخصوصاً، كان لديهم موقف سياسي سجالي إزاء قضية الاستقلال، لكنهم في الوقت نفسه لم يرتقوا  بالموقف إلى مستوى خطاب الاستقلال القومي. وهذا المثلب لم يتم تداركه، برأيي، حتى الآن على المستوى السياسي والإعلامي والدستوري… إلخ، فما طغى على النقاش حول الاستفتاء والاستقلال وما يزال، من مبررات وذرائع، يمكن أن تصنف على أنها حزمة من ردّات الفعل إزاء فعل الآخر، ولم ينظروا إلى فعل الاستقلال كغاية بذاتها ولذاتها.

من جانب آخر وجدنا أن المؤيدين لشعار الاستقلال والمعترضين عليه، خلطوا بين مبدأ الاستفتاء وبين فعل الاستفتاء وإجرائه، وهذا ما قاد إلى انقسام سياسي عميق في الشارع استطاع خصوم الاستفتاء من خلاله اختراق الشارع الشعبي وإحداث شرخ فيه.

ما كان ينبغي أن يستدركه الكرد المعارضون للاستفتاء هذه المرة، كي لا يفوتهم التاريخ كما حصل قبل مائة عام، هو توفير وتأكيد حقوقهم قبل أي اعتبار آيديولوجي أو سياسي آخر، إذ طالما وأنك لا تحترم حقوقك أو تقيم لها وزناً أو مهابة، فكيف لك أن تتوقع من غيرك أو من خصمك أن يفعل ذلك؟ من الحماقة جداً أن تتوقع منه حينئذ سوى الازدراء والاستخفاف والتجاهل. هذا برأيي أهم درس يحتاجه المجّانيون الكرد. وهذا ما حصل بالفعل في إقليم كردستان حينما اتجه المعارضين لإجراء الاستفتاء، لأسباب سياسية تتعلق بإدارة الحكم في الاقليم إلى نقض مبدأ الاستفتاء بطريقة كيدية.

يكرّس استفتاء الإقليم، للمرة الأولى، حدوداً لا يمكن لأي سلطة قائمة أو قادمة من أن تتخطاها بصورة تعسفية. وهو يشكل ضمانة راسخة ضد أية هيمنة أو إخلال بالحقوق وبمبدأ المساواة، أو ممارسة أيّ نوع من الوصاية على مصير الشعب مستقبلاً، سواء من قبل أغلبية عرقية أو مذهبية أو أقلية أوليغارشية حاكمة.

الدول التي تتقاسم سماء الكردي وهوائه، اتحدث في جبهة المكابرة والغرور تطالب الآن بإلغاء الاستفتاء ونتائجه، ولا تكتف بتجميد نتائجه أو تعليقها كما أعلنت حكومة الإقليم في عرض( سخي) تقدمت به للمجتمع الدولي. لكن تلك الدول لا تملك الإجابة على سؤال كيف؟ وأية سلطة أعلى أو أقوى أو أكثر من سلطة الاستفتاء وشرعيته؟ هذه الدول ونظمها اعتادت على اغتصاب حقوق الشعوب والتاريخ والجغرافية دون الاكتراث لإرادة أحد. فمن الطبيعي أن تندفع انطلاقاً من تجارب الغطرسة التسلط لديها للمطالب بإلغاء وحذف إرادة أمة بأكملها !!!

في أوقات عديدة قد يكون نافعاً اللجوء إلى نظريات اللاهوت لشرح مثل هذه القضايا لمن يستعصي عليهم الفهم. إن قضية الاستفتاء تشبه في هذا السياق نظرية خلق العالم واستحداثه دفعة واحدة. فمشيئة الخالق هي العليا، وهو الفاعل الحقيقي لكل شيء، وليست هنالك مشيئة أعلى أو أقوى تستطيع منع هذا الخلق أو الحؤول دونه، والمطالبة بإلغاء الاستفتاء مثل تحدي المشيئة الإلهية بحذف حدوث العالم والعودة للعدم، وهذا محال.

وطالما هذا الحذف محال فإن إعادة الخلق للمرة ثانية أيضاً مستحيلة إذا إن المشيئة الإلهية لا يمكنها أن تكون مترددة أو تتراجع عن خلق أقدمت عليه. كذلك فإن فعل الخلق بصفته تعبيراً عن إرادة مطلقة يستمر في الوجود ومتواصلاً لا يمكن لأحد أن يتدخل فيه. هذا الأمر ينطبق على إرادة الاستفتاء ومشيئة الشعب، التي لا تعلوها إرادة أو سلطة، وشرعية الاستفتاء تظل قائمة ومستمرة، لا يمكن أن تنكث، بوجود الشعب نفسه.

نشرت هذه المقالة في العدد 68 من صحيفة Buyer تاريخ 1/11/2017

التعليقات مغلقة.