عندما تفقد الشعوب قاداتها..!

37

أكرم حسين

“يقال بأنّ لكلّ زمن رجالاته، فقد أنتج العصر الحديث بعد رحيل الخالد مصطفى ثلاثة قادة عظام أصبحوا يعيشون في الوجدان الجمعي الكردي، القائد مام جلال الذي غادرنا منذ أيام و القائد عبد الله اوجلان الأسير في ايمرالي والقائد مسعود البارزاني “

رحل مام جلال الطالباني كغيره من البشر لأنها سنّة الحياة، لكن رحيله لم يكن عاديا! لأن هذا الرحيل قد  جاء في مرحلة  تاريخية  تعيش فيها كردستان ظروفا استثنائية بعد تحدي الإرادة الإقليميّة والدوليّة لشعب كردستان ورغبته في الاستقلال عبر إجراء الاستفتاء، هذا الحدث التاريخيّ والذي كانت نتيجته متوقِّعة ألا أنّها اكتسبت الصفة الشرعيّة والقانونيّة لشعب عاش الظلم والاحتلال من خلال الاحتكام إلى الشعب واحترام إرادته الحرة والواعية.

 رحل مام جلال وترك هذا الرحيل والغياب فراغاً كبيرا في صفوف حزبه وشعبه، فقد كان وجوده الفيزيائي يمدّ رفاقه بالقوة واللُّحمة حتى في فترة مرضه، بسبب شخصيته القويّة والكاريزما التي كان يتمتع بها؛ وهو الذي صنع قدره بنفسه على عكس القادة الآخرين الذين ساهمت الأقدار في صنعهم، فهو من الهامات الكبيرة التي كانت ولاتزال إلى اليوم موضع تقييم ومثار جدل، واختلاف رأي فيها، أو الحكم عليها، لكن بالنهاية  فإنّ رحيل قائد حتى وإنْ كان استثنائيا  قد يؤثر في أمُّة ويترك فراغاً، لكنّه لا يوقف مسيرتها واندفاعها إلى تحقيق تطلُّعاتها وأهدافها، حتى وإنْ كان المام قد أكّد حضوره بالأدوار التي أداها سواء أكان في مرحلة الصراع ضد نظام صدام حسين، أوفي مجلس الحكم الانتقالي، أو في توقيع الاتفاق الاستراتيجي بين الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني والذي أنهى مرحلةً من الصراع الدّموي بين الطرفين، وفي رئاسته للعراق لدورتين متتاليتين وعدم توقيعه على مرسوم إعدام صدام حسين، أثبت جلال الطالباني مقولة الفيلسوف الألماني هيغل والتي تقول: “بأنّ التّاريخ يقوم على أكتاف رجال عظام”. وكذلك ماكس فيبر الذي أكد هو الآخر على دور القائد التّاريخي، المُتمتّع بقوة جاذبيته، معتبراً أنّ بسمارك موحد ألمانيا، هو أهم صناع التاريخ الحديث.

يقال بأن لكل زمن رجالاته، فقد أنتج العصر الحديث بعد رحيل الخالد مصطفى ثلاثة قادة عظام أصبحوا يعيشون في الوجدان الجمعي الكردي، المام جلال الذي غادرنا منذ أيام وعبد الله اوجلان الأسير في ايمرالي ومسعود البارزاني قائد كردستان الذي يخوض معارك الشّرف والاستقلال على كل الجبهات وتتوجه إليه الانظار اليوم من أجل توحيد الصف الكردي وقيادة الكرد إلى بَرِّ الأمان لِمَ يُحظى به من تقدير واحترام لدى خصومه قبل اتباعه ومحبيه، فطبيعة المرحلة هي التي تحدد خصائص القائد ومبررات وجوده، لأنّه لا يمكن أن نشاهد قادة من نوع استثنائي بعيداً عن الأزمات التي تستدعي حضور القادة التاريخين، ولذلك لا يحتفظ التاريخ الإنساني في ذاكرته إلا بهؤلاء الأشخاص الاستثنائيين

لكن هذا الواقع، لم يلغِ السجال القديم الجديد؛ حول دور الفرد في التّاريخ رغم أنّ الشّعوب هي التي تصنع التاريخ وتنتج القادة، وهؤلاء القادة يتغيرون بتغير الظروف، بحضورهم أو غيابهم، فقد يكون شخصٌ ما كالبارزاني قائداَ ورمزا عظيماً عندما يقود نضال شعبه ويعبّر عن مصالحه وتطلعاته ، لكن عندما يأتي شخص آخر ويستلم دفّة القيادة سواءً تابع المسير في طريقه أو اختط  لنفسه طريقا آخر، تنقلب الولاءات وتتغير العواطف باتجاه القائد الجديد، الذي يكتسب حضوره في الوعي الجمعي انطلاقاً من الأهداف والغايات التي يمثلها وطردا مع الزمن. بمعنى كلّما استمر حضور القائد الفيزيائي وتراكمت انجازاته كلّما اكتسب مشروعيته واحتل مكانه في اللاشعور الجمعي الذي لا يخضع إلى قانون أو عرف.

 فالشُّعب الكردي الذي يزيد تعداده عن خمسين مليون وفيه المئات من الأحزاب لم ينتج إلا قيادات أقل من أصحاب اليد الواحدة يمكن استحضار أسمائهم، كالبارزاني، مام جلال، عبد الله اوجلان ومشعل التمو الذي كان مشروع قائد لكردستان سوريا لكن القدر كان له بالمرصاد فاختطفه قبل أن يرى مشروعه النور ولذلك بقي تأثيره محدوداً بحدود الجغرافيا التي كان ينتمي إليها. 

رحل المام في وقت يتجه فيه شعب باشور إلى الاستقلال  وبناء الدولة رغم كل ما يتعرض له من ضغوط داخليّة وإقليميّة ودوليّة، لكن إرادة الشعب ستنتصر بالنهاية وسيكون النصر حليفه بكل تأكيد لأنّ إرادة الشعوب لا تُقهر.

بعد وفاة جلال طالباني، يبدو أن مسعود بارزاني هو القائد الكردي الذي تتطلع نحوه الأنظار في الأجزاء الأربعة من كردستان لتحقيق حلم الكرد التاريخي في دولة مستقلّة حتى لو كان على جزء من كردستان لأنّ عبدلله أوجلان، زعيم «حزب العمال الكردستاني» لا يزال مسجونا في جزيرة ايمرالي، وقد فوّض أنصاره عام 2013 باختيار مسعود البارزاني رئيسا للمؤتمر القومي الكردستاني لكن المؤتمر لم يكتب له النجاح لأسباب لسنا بصددها الآن.

ثمّة أسئلة يجدر بنا مواجهتها إزاء النقاش المثار في مسألة القيادة والجماهير، تتعلق بما تمّ طرحه في المقدمة فموت المام كان يمكن أن يؤثر على عموم كردستان، لكن وجود شخصية مناضلة كالبارزاني سيخفف من هذا التأثير وسيجعله محدوداً، لأنّه يتحلى بصفات تجعله أقدر من الآخرين على الاستجابة للضرورات الاجتماعية  التي تتأتى عن الأسباب العامة والخاصة، فميدان العمل أمام جميع الناس مفتوح  لكن الرجال العظام هم من يبدعون فيه.

وبالمحصلة فإنّ البيئة الاجتماعيّة هي التي تخلق القائد وتنتجه بالصورة التي هو عليها رغم أنّ المزايا الشخصيّة قد تلعب هي الأخرى دورا في ظهور القائد وتميزه عن الآخرين قليلاً، لكن هذه المزايا لوحدها لا يمكنها أن تؤدي إلى ظهوره بغياب البيئة الاجتماعية المناسبة فظهور القادة مرتبط غالبا مع دعم مجتمعاتها لها.

نشر هذا المقال في العدد (67) من صحيفة Buyerpress

بتاريخ 15/10/2017

التعليقات مغلقة.