هل تنجح المحاولة الكردية السادسة لإعلان الدولة القومية

34

صباح ناهي

كنت من بين المترقبين لمشهد اللقاء الأول مع جلال الطالباني، في السليمانية صيف العام 2001، مع صحافيين بارزين، هما حسني محلي ويوسف الشريف. حين انطلقنا من بغداد للقاء الطالباني، كان ذلك بموافقة رسمية من النظام، الذي يضع جلال الطالباني على رأس المطلوبين في سجلاته، مصنفا إياه برجل “إيران الأول” آنذاك. وأصدر الرئيس الراحل صدام وقتها عفوا عن كل السياسيين المناوئين لنظامه في بيان رسمي، عدا جلال الطالباني، في قرار لافت من مجلس قيادة الثورة الذي يترأسه صدام حسين.

 

وإلى الآن لا أعرف كيف وافقوا على مقابلتي لجلال الطالباني في لقاء خاص بشبكة تلفزيونية عربية كنت أعمل فيها في ذلك الوقت. ظللنا نحن الثلاثة في السليمانية طيلة النهار، لأن الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني، الحاكم الفعلي للسليمانية، تأخر في مكوثه أثناء زيارته لإيران وقتها. لكنه اتصل شخصيا وطلب بقاءنا إلى حين نقله بطائرة هليوكوبتر من الحدود الإيرانية.

 

انتظرنا مرغمين إلى أن جاء الطالباني إلى مقره الذي كان يشغله محافظ السليمانية قبيل العام 1991، ودخلت المنطقة تحت ما يسمى بخط عرض 36 الذي فرضته قرارات مجلس الأمن الدولي المفروض على بغداد، الذي كفل حماية دولية للأكراد في مناطق تواجدهم آنذاك في المحافظات الثلاث أربيل والسليمانية ودهوك.

 

كان الطالباني قد فرغ من لقاء هاشمي رافسنجاني في طهران، الذي أسرّه له بضرورة أن تتحول إيران إلى النظام الفيدرالي وإلا سيحّولها الغرب بعد عشرين عاما عنوة، كما قال لنا مجيبا عن سؤال الزميل حسني محلي. وكان طالباني جذلا بهذه الرؤية التي أسرّها له الزعيم الإيراني النافذ وقتها.

 

سألته مازحا “في كم ساعة تسقط السليمانية في حال رفع حظر الأمم المتحدة على الجيش العراقي بمنع الاقتراب منها وفق الخط 36”. انتفض زعيم أكراد المشرق المنافس لزعيم أربيل مسعود البارزاني، وقال “أعطيهم خمس سنوات كي يزحزحوننا عن السليمانية، العالم كله معنا هذه المرة”.

 

وكان وقتها جلال الطالباني مستبشرا ومزهوا بالشركات العالمية التي كانت تنقب عن النفط في منطقته لحل أزمة الوقود الخانقة. المشهد تغير تماما حين ذهبت إلى أربيل بعد سنين لألتقي رئيس الإقليم مسعود البارزاني.

وجدته يتصرف مع قياداته المقربة بعزم رئيس دولة ويسكن في أحد القصور التي بناها صدام حسين في منطقة جبلية تطل على أربيل، وبثقة توحي بأن كل شيء يسير وفق رؤية ستوصل الشعب الكردي، ليس في أربيل وحدها، بل أكراد العراق وأبناء عمومتهم في سوريا وتركيا وإيران، إلى تحقيق حلم الدولة التي تأخرت طويلا منذ أول محاولة لهم في العام 1922 والتي قام بها محمود الحفيد.

 

هل ينجح الاستفتاء

كان البارزاني ومن حوله يحاولون إقناع من يزورونهم بأنهم سينشئون هذه الدولة أسوة بالعرب الذين لديهم عشرون دولة والإيرانيين والأتراك. تبدو حجتهم قوية حين يتجردون من التزاماتهم مع السلطة المركزية في بغداد. أولئك العرب الغارقون في معاركهم الطائفية وصراعاتهم السياسية، والمنغمسون في شهوة المال والسلطة، والذين يلجأون إلى أربيل ليكسبوا أصواتها في تصويت البرلمان في بغداد كلما أرادوا حسم ملفاتهم التي لا تنتهي بتقديم الوعود والتنازلات.

 

سألت مسعود البارزاني: من هم أقرب حلفائكم من العرب، فأجاب بلا تردد: عشائر الجبور، التي تتعايش مع الأكراد منذ عقود وتمتد على طول حوض دجلة والفرات من الشمال حتى المناطق الوسطى، وهم أغلبية العرب في المناطق المتنازع عليها في كركوك الغنية بالنفط وسواها.

 

يبدو البارزاني في أحاديثه مع الصحافيين مقنعا ودمث الخلق، يحكي بلهجة عربية سليمة كونه عاش في بغداد ودرس فيها ولديه الكثير من الأصدقاء العراقيين من العرب. يعرف أمزجتهم وكيف يفكرون. وكان يحظى بتقدير الحكم في بغداد قبيل العام 2003. وكان يرعى المعارضة العراقية وساعد رموزها بل وإيواءها لسنين.

 

لكنه لن ينسى المنافس المحلي الكردي في السليمانية ذا التوجهات اليسارية الماوية التي تتقاطع مع كونه من أسرة إقطاعية، وتمتلك الكثير من أراضي واقتصاد أربيل أو “هاوليير” كما يحلو للأكراد تسميتها.

 

وحين تريد الإمعان في إحراجه عن الرعاية الإسرائيلية لأكراد العراق يقول البارزاني بلا تردد “غيرنا من العرب لديهم علاقات وتمثيل مع الإسرائيليين. نحن لا نملك ملحقيات إسرائيلية في أربيل أو أي مدينة كردية. لماذا تغفلون عن سؤالهم؟”. ويردف قائلا “نحن لسنا عربا لكي نعادي إسرائيل، وأحيانا نتعامل مع الشيطان درءا لشعبنا”.

 

استغلال الفرصة

يواجهك حتى يبدو لك أن مسعود البارزاني أكثر ثقة في جدوى الاستقلال وتحقيق الحلم الكردي بإعلان الدولة القومية للأكراد بأسرع ما تتخيل، غير مكترث لما يحدث في بغداد جراء ذلك، لأنه يعرف أن ساستها غارقون في أزمات لن يخرجوا منها. ويشعر أنه سيتلقى دعما دوليا لمشروعه من عشرات الساسة الأميركيين والأوروبيين الذين يزورونه ويتعاملون معه كرئيس دولة فعلي، بل حتى من بعض الأقطار العربية وتبدي له تفهمها لمنطق “حق تقرير المصير” للشعب الكردي.

على عكس ذلك، قال جلال الطالباني، الرئيس العراقي السابق، إن “حلم الدولة الكردية يظل حلما مقدسا لنا، لكن ذلك لا يعدو أن يكون حلما، ومن حقنا أن نبقيه بداخلنا ونسعى إليه مستقبلا”. وبدى لي أنه راض عما حققه الشعب الكردي من نتائج بعد سقوط النظام البعثي في بغداد الذي ظل يهدد وجوده إلى غاية انتهاء الدولة القومية العراقية في بغداد العام 2003.

 

اليوم، يتردد سؤال رئيسي في مختلف أنحاء العراق، من العرب تحديدا وهو: هل سينجح الاستفتاء المزمع إجراؤه ليكون نواة إعلان الاستقلال بعد سلسلة من المحاولات والتجارب السابقة؟ والتي بدأت منذ إعلان “مملكة كردستان” التي أقامها الشيخ محمود الحفيد في مدينة السليمانية العام 1922 وظلت لسنتين فقط، قبل أن تهاجمها القوات العراقية بدعم من بريطانيا، وحاول الحفيد استعادتها لكن سوء حظه أن بريطانيا اكتشفت النفط في كركوك اللصيقة بالسليمانية، وأدركت أن وجود دولة كردية غير مسيطر عليها سيشكل تهديدا لمصالحها فأسقطت دولة الحفيد ونفته خارج العراق عام 1926.

 

‏كذلك فشلت دولة “كردستان الحمراء” ‏(1923 – 1929) التي ظهرت في منطقة ناغورنو كاراباخ الواقعة بين أرمينيا وأذربيجان، ونجحت التحالفات الإقليمية والدولية آنذاك في إنهاء تلك الدولة وتسببت في تهجير الأكراد من أذربيجان وأرمينيا نحو الجنوب، كذلك لم تستمر “جمهورية لاجين” التي ‏تأسست العام 1992 برئاسة وكيل مصطفى اييف، الذي هرب إلى إيطاليا.

 

‏وكانت جمهورية مهاباد أنضج التجارب التي أسستها المعارضة الكردية في إيران بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبدعم الاتحاد السوفيتي. لكنها انهارت بفعل تحالف الشاه مع بريطانيا والولايات المتحدة وتخلي ستالين عن الأكراد مقابل صفقة نفط مع الشاه رضا بهلوي ما تسبب في هرب الملا مصطفى البارزاني وزير دفاعها إلى الاتحاد السوفيتي لاجئا، كما انهارت ثورة “جمهورية آرارات” في تركيا، ‏بزعامة إحسان نوري باشا عام 1930.

 

وكانت ألحقت خسائر فادحة بالجيش التركي، مما دفع الأتراك إلى إعلان النفير العام، وحاصروا الدولة الكردية واضطر إحسان باشا إلى الهرب إلى إيران، وقمعت من الأتراك بقسوة.

تاريخيا يظل الحكم الذاتي للأكراد في العراق لثلاث محافظات أربيل ودهوك والسليمانية عام 1970 من أنجح التفاوضات السلمية التي أنجزها الملا مصطفى البارزاني (والد مسعود) والتي حققت للأكراد كيانا شبه مستقل مرتبطا بالدولة العراقية، ويعد سابقة نواة لمطالبات شبيهة لأكراد الإقليم أينما كانوا سواء في سوريا أو تركيا أو إيران.

 

لم يقتصر الحكم الكردي على مجرد حكم ذاتي ضمن الجمهورية العراقية بعيد العام 2003 بالرغم من الشراكة الكبيرة التي وفرها عراق ما بعد سقوط نظام صدام حسين برفع منحهم من ميزانية العراق إلى غاية 22 بالمئة، وإشراكهم الفعلي بكل مفاصل الإدارات العامة والسيادية التي كانت مقتصرة على العرب. فصار الرئيس كرديا ونائبه ونواب رئيس الوزراء والبرلمان ووزارات سيادية يترأسها الأكراد وفق توافق سياسي مع الحكام الحلفاء الشيعة في الائتلاف الحاكم.

 

لكن ذلك لم يثن الأكراد عن المطالبة بمناطق أخرى غير محافظاتهم الثلاث بضم كركوك الغنية بالنفط، نزولا إلى ديالى وأجزاء من الموصل وتهجير قرى عربية بين كردستان العراق وأكراد سوريا في منطقة الجزيرة في الموصل التي تقطنها قبائل شمر، لتأمين تواصل بينهم وبين أكراد سوريا من القامشلي والحسكة، تمهيدا لإعلان الدولة الكردية الكبرى وعاصمتها “هاولير”- أربيل، ليتبعهم متمردو أكراد تركيا وإيران. فهل تنجح المحاولة الكردية السادسة هذه المرة في ظل “طوق النار” الذي يحيطها، والذي سيجعل من أراضيها يبابا إذا ما التقت مصالح دول الطوق المحيطة بالأكراد، وتضافرت جهود الدول الأربع على حصارها؟

 

إنها مغامرة مسعود البارزاني، الذي يلبي صوتا بداخله يناديه ليكمل المحاولة الاستثنائية التي بدأها أبوه في دولة مهاباد مستغلا تردي أوضاع السلطة المركزية في بغداد التي أنهكتها التفجيرات وحرب داعش والانقسام السني الشيعي. لقد أتاحت الظروف الإقليمية والدولية فرصة قد لا تتكرر لإعلان مشروعه.

 

ويدرك البارزاني أن دولة الفساد التي تحكم العراق حاليا لا تملك عقيدة بناء معلنة وواضحة وهي موغلة في الصراعات ولا تقوى على التسوية السياسية مع حلفائها، فكيف مع خصومها المحيطين بها في المحافظات السنية الست الواقعة بينها وبين الأكراد والتي ذاقت الأمرين من سياسة العزل والتهميش والمصالحة المخادعة، ويعلم أن كل الصراخ والوعيد والتهديدات التي تسبق إجراء الاستفتاء ما هي إلا دعاية انتخابية تسبق الانتخابات المقبلة مطلع العام القادم، وأن استراتيجية رد الفعل خاسرة لعدم وجود بناء حقيقي للدولة العراقية.

 

المصدر: العرب اللندنية

التعليقات مغلقة.