الكردي الجيد والكردي السيء في تجربة «روج آفا»

88

طه خليل

في بداية الثمانينات، وبعد الانقلاب العسكري التركي الذي قام به الجنرال كنعان إيفرين، وانقضاضه على اليساريين والثوريين في تركيا من أتراك وكرد، قرر عدد من قيادات حزب العمال الكردستاني المغادرة، والهجرة الى سورية، هرباً من القتل والاعتقال. وكانت العلاقة بين الرئيس حافظ الأسد وتركيا قلقة وحذرة على الدوام، وهنا وجد عناصر حزب العمال الكردستاني فسحة من الأمان وحرية للعمل السياسي والعسكري(أقيمت لهم معسكرات في لبنان برعاية سورية)، وشاركوا القوى الوطنية والفلسطينية أثناء الهجوم الإسرائيلي على لبنان، وقد دافع أثنا عشر مقاتلاً منهم عن قلعة الشقيف بوجه دبابات شارون حتى استشهدوا جميعاً، وكانت تلك فاتحة العلاقات مع الفصائل الفلسطينية و «القوى التقدمية» في المنطقة.

 

كان لخطاب حزب العمال الكردستاني اليساري صدى مؤثر عند الكثيرين من أبناء الشعب الكردي وبناته في «روج آفا يي كردستان» (المنطقة ذات الغالبية الكردية في سورية) لاسيما أن الحالة السياسية الكردية كانت مصابة بالشلل، بعد فشل ثورة جنوب كردستان وتآمر الشاه وصدام حسين على القائد الكردي ملا مصطفى البرزاني، ونتيجة ذلك الإحباط الذي أصاب المجتمع الكردي، استطاع حزب العمال الكردستاني أن يطرح خطاباً جديداً، يدعو إلى تحرير كردستان من خلال «الحرب الشعبية الطويلة الأمد» معتمداً على النظرية الفيتنامية في شكل خاص، ومتخذاً من الستالينية الحديدية أسلوباً في الممارسة، وانتشرت أفكار الحزب بين شرائح كردية ظلت مهمشة من قبل أحزاب كردية كانت ترتبط معنوياً بالحزب الديموقراطي الكردستاني في كردستان الجنوبية (العراق) وقطاعات واسعة من الطلاب في الجامعات، والمدارس. هؤلاء الذين لم تعرهم الأحزاب الكردية (السورية) اهتماماً، بسبب مشاكلها الداخلية والضغوط التي تتلقاها من السلطات السورية من جهة ومن جهة أخرى لعدم قدرتها على استيعابهم. فقد كانت تلك الأحزاب في شكل عام ذات توجهات عشائرية وعائلية، وإن بدا خطاب بعضها علمانياً يسارياً. واستغل حزب العمال الكردستاني هذا الأمر فتوجه إلى الشرائح المسحوقة والفقيرة من الأكراد، وتمّ التحاق الآلاف من الشباب والشابات في صفوفه واتجهوا إلى الجبال للمشاركة في المقاومة ضد الجيش التركي.

 

كان لافتاً وجود العنصر النسائي وإعطاء المرأة الكردية دوراً في العمل السياسي والعسكري، وكانت السلطات السورية تغض النظر عن مؤيدي العمال الكردستاني ومناصريه، وهذا ما وفر للحزب انتشاراً هائلاً في غرب كردستان، وانضم الى الجبال الآلاف من الشباب، ويوماً بعد يوم كثر أعداء الحزب من القوى الكردية السياسية (الكلاسيكية) في سورية في شكل خاص، وكذلك من قبل العديد من الدول والجهات التي بدأت تتحسس من تعاظم قوة الحزب ومقاتليه، إلا أن «العمال الكردستاني»، استطاع أن يثبت نفسه على الساحة الكردستانية، ويهدد تركيا التي عجزت على رغم كل حملاتها العسكرية الجرارة على معاقله من القضاء عليه، فكان أن تحركت تركيا عسكرياً باتجاه سورية لطرد زعيم حزب العمال الكردستاني اوجلان وإغلاق مقراته، حتى كان خروج أوجلان من سورية ومن ثم اختطافه، ومحاكمته في تركيا وزجه في سجن انفرادي في جزيرة امرالي منذ أواخر التسعينات.

 

ومن يومها ساءت العلاقة بين العمال الكردستاني والنظام السوري، حتى كانت اتفاقية اضنة بين تركيا وسورية (في زمن الرئيس الابن) لضرب الحزب، وبدأ نظام بشار الأسد باعتقال أعضاء الحزب وتسليمهم إلى تركيا، وزج مناصريه في السجون، وهكذا بقي من بقي وتوارى عن الأنظار الآلاف من مناصري الحزب وتوجهوا إلى جبال قنديل، وهناك بدأ الحزب يراجع آليات عمله ومشروعه السياسي، فكان أن توصل إلى فكرة تشكيل أحزاب كردية في كل جزء من أجزاء كردستان لينضم إليه هؤلاء المناصرون الذين ينحدرون من هذا الجزء او ذاك.

 

وهكذا تشكل حزب الاتحاد الديموقراطي، من الأعضاء السوريين الذين التحقوا قبلاً بحزب العمال، وبدأت طلائعهم تعود إلى سورية للعمل في شكل سري، وقد قضى العديد منهم في السجون السورية تحت التعذيب، حتى كانت ثورة الشعب السوري، عام 2011 فعاد معظم أعضاء حزب الاتحاد ليلملموا بعضهم من جديد، ويتدارسوا الأحداث بروية، فتوصلوا إلى نتيجة أن «لا ناقة لهم بما يجري ولا جمل» وانشغلوا بتأسيس المؤسسات النسائية والشبابية وشيئًا فشيئًا العسكرية بعد أن بدأ الحراك السوري يتجه إلى العنف والعسكرة، واختاروا لأنفسهم «طريقا ثالثا» كما سموه، ليس مع المعارضة ولا مع النظام، وسيكتفون بحماية «روج آفا» أمام أية هجمات ومن أية جهة كانت، وهنا افترق الشارع الكردي بين مؤيد للحياد، ومعارض لهذا النهج يردد «الله محيي الجيش الحر»، واتهموا حزب الاتحاد الديموقراطي بالعمل مع النظام الذي انسحب من البلدات الكردية في روج آفا تارة بعد معارك شرسة بينه وبين وحدات حماية الشعب، وتارة بلا حرب.

 

وراح الاتحاد الديموقراطي يبني مؤسساته الخدمية والعسكرية في كل بلدة وقرية كردية، حتى توصل مع العديد من الأطراف الكردية والعربية والسريانية الى إعلان «إدارة ذاتية ديموقراطية» في المناطق التي يسيطر عليها( روج آفاي كردستان) ونتيجة لخبرة مقاتليه العسكرية استطاع إفشال كل الهجمات العسكرية من قبل «النصرة» و «داعش» على مناطق «روج آفا»، وبعد أن اتسعت أعمالهم العسكرية لا سيما بعد أن هزموا «داعش» في كوباني بدعم جوي من التحالف الدولي، وجد التحالف أنهم القوة الأكثر تأثيراً وانضباطاً على الأرض السورية في محاربة التنظيمات الإرهابية، فراح يدعم «الكرد» عسكرياً، ولوجستياً، ويبني العديد من قواعد الدعم العسكري في المناطق الكردية، ما أثار حفيظة تركيا التي بدأت بحرب حقيقية عسكرية وسياسية ضد الكرد، من خلال جيشها وتشكيلات عسكرية كـ «درع الفرات… وسيف الفرات… وجبهة النصرة وغيرها» وجندت لذلك العديد من الجهات لا سيما بعد ان رأت ان اميركا حليفتها في الـ «ناتو» اختارت الكرد بدلاً منها ومن تشكيلاتها، للعمل معهم في سورية.

 

لا شك في أن القائمين على التجربة الكردية في سورية يستلهمون أفكارهم واستراتيجياتهم من أفكار زعيم حزب العمال الكردستاني الموجود في سجنه الانفرادي بتركيا، وإن نشاطهم العسكري لم يكن ليظهر بهذا المستوى من التكتيك والانضباط والرؤية الاستراتيجية لولا تجربتهم على مدى سنوات في جبال قنديل، إلا أن هؤلاء جميعاً أكراد وسوريون، ويحملون الهوية السورية، عدا الذين أسقطت الجنسية السورية عن آبائهم قبل أكثر من نصف قرن على يد حزب البعث السوري، الذي يجند اليوم المئات لمقاتلة الكرد، ملتقياً مع الرئيس التركي أردوغان في قوله مؤخراً انه: «واثق من أن أخوته الكرد الجيدين لن يسمحوا لحزب صالح مسلم أن يشكل كياناً كردياً في شمال سورية».

 

المصدر: الحياة

التعليقات مغلقة.