عيد قديم سعيد

44

د. عماد خلف

كان إعلان القاضي الشرعي الأول بدمشق أشبه بعفوٍ عامٍ يصدر من حاكم لمساجينه، فالجميع يترقب سماع انتهاء شهر الخير ورحيله، الجميع يفرح لتلاشي شهر المغفرة والعتق من النار، الجميع يرقص على إغلاق أبواب الرحمة وطرق الشفاعة والتوبة.

كانت التكبيرات تعمّ أرجاء الحارة معمّمة خبر أول ايام عيد الفطر السعيد، كنت مشغولاً بكيفية تحضير وتجهيز ملابسي وعدّة الكفاح الغير مسلح، بدءاً مع بزوغ أول خيوط الشمس، أضع حذائي الذي مازال بشحمه أمام رأسي مستغلاً وقت البحث في السبق بماراتون جمع السكاكر، وأقترح على الوالدة لبس الكنزة والبنطال ماركة جينز (صليبا ) كما صرّح لنا الوالد رغم أنها لاتشبه ما كان يعرض في دعايات القناة الأولى السورية.

ومن الساعة 8 مساء يبدأ صراع النوم مع أرق التفكير ببهجة يوم العيد، وفي النهاية نستيقظ على أصوات الحنونة والدتي غير مدركين كيف ومتى نِمنا، وعلى عجلٍ نغسل نصف وجهنا ونمشط ربع شعرنا مرتدين لباسنا في صباح مستنفر بجميع تفاصيله، وكانت أصوات التكبيرات أشبه بمحفّزات على سرعة الولوج في الحارة والتوجه إلى المحطة الأولى بيوم عملٍ شاقٍ ألا وهي المقبرة، حيث كانت تبعد مسافة ربع ساعة مشياً على طريق جبل عبدالعزيز، وكان زوار المقابر منتظرين قدومنا، ولحظة انتهاء قراءاتهم وبكائهم ونواحهم الذي يبكينا أحيانا، تبدأ عملية ملئ الكيس الأسود الخاص الذي أعدّتهُ الوالدة لجمع مونة السنة القادمة من سكاكر الأطفال وليس الرجال، كنا نتسابق على القبور بشكل متسلسل ومنسّق ولا مانع من تكرار أحدهم بنيّة صافية، كثيراً ما كنت أسمع عبارة ” انت هلا عطيتك والله مارح أعطيك مرة تانية” وأنا ولا يهمّني فالغاية تبرر الإهانة، وفجأة قامت سيدة بجمعنا أمامها ورشّت السكاكر لنتطاير كالجراد ملتقطين أكبر عدد منها، ومع قفزة ماراتونية ووثب طويل مؤدياً إلى ضغط على البنطال الضيق أساساً انشق من منتصفه مع هبوط على الأرض، ورغم ضحكات أبناء جيراني وأخي لم ألقى أيّ اهتمام بهذا الحدث الجلل بل وشاركتهم الضحكة بعرضي لون سروالي الداخلي لهم.

وبعد تزايد حالات الطرد من قبل الأهالي وتأكدنا من نفاذ السكاكر لديهم، كنا ننتقل إلى المرحلة التالية من خلال إجراء مسح طبوغرافي سكاني مساحي جيولوجي لجميع بيوت المدينة وحاراتها وأزقتها مرددين عبارة الطلب الغير مخجلة (سبها وه بخير عيداوه بمباركبه) وكنا نتبادل المعلومات الاستخباراتية مع بعضنا بوجود منازل توزع سكّر الفوار أو علكة “الغارغاروك” المرغومة لدينا، أما “القابقاب” فكان الحاضر الدائم لدى جميع البيوت.

وعند المغيب وبزوغ مؤشرات طردنا من بعض البيوت كان ينتهي هذا اليوم الشاق مع تلقينا عبارة “واااااع شكر نما ياوووو” كنا نعود أدراجنا والثروة التي بين يدينا أشبه بدفاتر دولارات هذه الأيام ، كنا نخبئ هذا الكيس في ركن من أركان “يانا لڤينا” محذّرين بعضنا من عدم الاقتراب والتصوير، وكانت هذه السكاكر مونة الطاقة لنا طوال السنة، فكل يوم نتناول واحدة واثنتين متذكرين الحارة والمنزل صاحب السكر, يا لها من أيام…!

نشرت هذه المادة في العدد 64 من صحيفة “Buyerpress”

بتاريخ 1/7/2017

التعليقات مغلقة.