“ليسَت الفَراشة وحدها ولهةٌ بالنار”

51

ادريس علي

في حديقةٍ باردةٍ في مدينة كولن، أسفلَ شجرةٍ مكلّلة بثلجٍ مُبكر، جلسَ سعيد منهكا على مقعدٍ خشبيّ بارد، اخترقتْ أنفهُ رائحةُ بول الكلاب. أشعلَ سيكارةً من التبغ الرخيصِ، ملفوفة يدويا، وراح يعبّ رئتيه من دخانها، محاولاً أنْ يبعدّ عنهما رائحةَ البّولِ النفّاذة.
قامَ عن المقعدِ الباردِ حينَ لم تتغلبْ رائحةُ التبغِ على رائحةِ بّولِ الكلاب، ومضى يتجوّل في أرجاء الحديقة.
كانَ سعيدٌ حزيناً جداً تلكَ الليلة، تساءلَ في نفسهِ: لِمَ أسموه سعيدا، وهوَ الذي لم يذقْ من معنى اسمهِ شيئا؟!
في ذلكَ اليوم أخبروهُ أنّه لا يستطيع لمّ شملِ زوجته وطفليه إلى ألمانيا، فقدَ حصلَ على إقامةٍ لمدةِ سنة، وقوانين وأنظمة هذه البلاد لا تسمح له بلمّ شملِ عائلته في هذه الحال.
وفي الفترةِ الأخيرة، كانَ قد سمعَ ـ مراراً ـ أنّ زوجته تخونُه، وهي على علاقةٍ مع صاحبِ الشركةِ التي تعملُ فيها، وأنّه يضاجعُها كلّ ليلة، وقد أسكنها في شقةٍ فارهة بدلَ تلكَ الغرفةِ الحقيرة التي استأجرها سعيد لعائلته، بعدَ أنْ باعَ منزلهُ قبلَ سفره، المنزلُ الكبيرُ الذي ورثَهُ عن والده، وبثمنه خرجَ إلى بلادِ الفرنجةِ هرباً من الحرب، ليبحث عن عزّ وجاهٍ جديدين، ومستقبلٍ واعدٍ لطفليه.
قررَ سعيد أنْ يفعلَ شيئاً،شيئاً يعيدُ له ذاته المفقودة، توجّهَ إلى منزله في إحدى ضواحي كولن، دخلَ مُختنقاً برائحةِ البّول والتّبغِ والذكريات، وهو يتخيّلُ لهاث زوجته تحتَ كرشِ صاحبِ الشركة.
فتحَ هاتفه الجوّال، وكتبَ رسالةً، ثمّ عدلَ عن رأيه، فمسحها قبلَ أنْ يرسلها. وضعَ هاتفه جانبا، وأحكمَ إغلاق الأبوابِ جيدا، وكذلك فعل بالنوافذ، وشغّل جهاز التلفاز، كانت القناة الرياضية العربية تبثّ مباشرةً مباراةً لناديه المُفضّل “بايرن ميونخ”، رفعَ صوتَ التلفاز على أخره، ثم أحضرَ وعاءً بلاستيكياً فيه بنزين.
صبّ سعيدٌ البنزينَ على جسده، وعلى ذكرياته وعلى رائحة الكلاب، وعلى لهاثِ زوجته، وعلى اسمه .. ثمّ أشعلَ النار.

 

نشرت هذه المادة في العدد (46) من صحيفة “Buyerpress”

بتاريخ 1/7/2017

 

التعليقات مغلقة.