كردستان والاستفتاء على تفادي كارثة المشروع الإيراني

48

حامد الكيلاني

نوفمبر 2016 كان تاريخا فارقا في إزالة الغموض عن رؤية ساسة الأكراد في علاقتهم مع حكومة المركز في بغداد. في مدينة بعشيقة ومع بداية معركة تحرير الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية، ألقى رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني كلمة وسط قوات البيشمركة أعلن فيها أن لا تنازل عن الأرض التي يقف عليها. القصد أن سهل نينوى لم يعد منطقة متنازع عليها لأنها عادت بدماء من ضحى من أجلها خلال سنوات احتلال داعش التي كلفت حياة الآلاف من المقاتلين الأكراد.

لماذا نزعت تلك الكلمات في بعشيقة عن وجه قادة كردستان نظارة المجاملات في لغة الوطن الواحد والمصير المشترك، وسعيهم مع معظم من تسلموا مقاليد الحكم في العراق إلى صياغة الخطوط العريضة لمشاريعهم منذ مؤتمر لندن للمعارضة وما تبعه إلى وقائع دخول القوات الأجنبية الغازية إلى أرض العراق في أبريل 2003.

لكي لا نبتعد عن مركز نقطة اتخاذ قرار الاستفتاء في 25 سبتمبر 2017، لا بد أن نعود إلى تلك العلامة الفارقة من الوضوح التي اتسمت بها كلمة مسعود البارزاني في بعشيقة. هل كانت حماسة القائد بين جنوده أم إنها لحظة استحقت تقرير الصوت الأعلى لتلتفت إليه المسامع في حكومة المركز والأحزاب والكتل السياسية؟ وأيضا الميليشيات المنضوية تحت فتوى دينية مذهبية ودعم قانوني برلماني ورعاية الحرس الثوري الإيراني وبمباركة من المرشد علي خامنئي، ميليشيات طائفية بامتياز وجدت في داعش واحتلاله للموصل ضالتها وفرصة سانحة لتطويع الآلاف من الشباب لخدمة المشروع الإيراني مستغلة الأوضاع السائدة كالفقر والانقسام المجتمعي.

ما جرى بعدها في كركوك من رفع لعلم إقليم كردستان في المحافظة والدوائر الرسمية هو تأكيد على أن الاستفتاء خطوة تقنية في الممارسة الديمقراطية لإشهار الانفصال عن العراق أو الاستقلال بدولة كردية كاملة السيادة على أراضيها، وليس كما يذهب الكثيرون لاعتبار الاستفتاء مجرد ورقة ضغط على حكومة المركز في أي مفاوضات تتعلق بنوع العلاقة مع إقليم كردستان وحول ملفات شائكة كالأراضي المتنازع عليها ومرحلة ما بعد داعش والنفط وتوزيع الثروات وعقدة كركوك وغيرها.

إقليم كردستان توفرت له منذ أوائل عقد التسعينات من القرن الماضي، أي بعد حرب الخليج الثانية، مساحة من الاستقلالية وحماية دولية بقرار الحظر الجوي. في تلك السنوات امتحنت القيادات والأحزاب الكردية مشوار كفاحها المسلح الطويل المختلف تماما مع تجربة إدارة الإقليم رغم أنها تمتعت بفترات استقرار نسبي وبحكم ذاتي تخللته منغصات ومداخلات متفرقة أهمها كان إيرانيا، خاصة في سنوات الحرب الإيرانية العراقية، وبعض أحداثها مازال في دُرج المعلومات الاستخبارية طي الكتمان لأن آثارها مستمرة في الحاضر. وحتى في التسعينات لم تسلم التجربة الكردية من خلافات بين الحزبين الرئيسيين، حيث وصلت حد الاقتتال الدامي وطلب الدعم من الحكومة لأحد الأطراف، وهو دعم يبدو خارج سياق العلاقة حينها بين الدولة وبين إقليم كردستان، لكن حدث ذلك ومعه تمت إعادة التوازن لكلا الطرفين.

كان حضور القيادات الكردية في مؤتمر لندن للمعارضة مؤثرا وفي المؤتمرات الأخرى، لأن كردستان حظيت بعنصر معايشة التجربة كدولة شبه مستقلة رغم ارتباطها بمتطلبات كثيرة حياتية مع المركز. ولأن استلام الحكم يفرض متغيرات، لذلك تتباين الآن وجهات النظر إلى حد التقاطع والرفض البات لمجمل مخرجات زمن المعارضة حتى منها ما أقره الدستور الجديد وتم الاتفاق عليه ثم تمت المماطلة في بعض فقراته وأخطرها تقرير مصير كركوك وعائديتها.

لماذا اختيار هذا التوقيت الحرج في تاريخ العراق لإجراء الاستفتاء؟ الأكراد وقياداتهم في معظمها اهتزت لديهم الثقة تماما بالحكومات المتعاقبة لحزب الدعوة، وهي ثقة لا ترتبط بالأداء السياسي مع الإقليم فقط وإنما تتعداها لتردي الواقع السياسي في العراق ككل وانعكاس ذلك على الحياة في كردستان من تمدد الإرهاب إلى انعدام الأمن وتردي الخدمات العامة للمواطنين، إلى الفساد الحكومي واستمرار نظام المحاصصة الطائفية والسياسية والتبعية المطلقة للنظام الإيراني الذي اصطدم في النهاية بالأحلام الكردية في إقامة الدولة.

الأكراد بعد داعش وبعد استفتائهم سيكتشفون عمليا أن المشروع الإيراني لم يقف متفرجا أو ناصحا فقط بل سيكشّر عن أنيابه هذه المرة. في المرات السابقة كان العراق وشعبه هو المتضرر من أي دعم إيراني للأحزاب الكردية، والورقة الكردية طالما عبثت بها رياح المصالح الدولية، أما الآن فمع الاستفتاء والرغبة الجامحة في الاستقلال فإن النظام الإيراني في موقف لا يحسد عليه، لأن الشعب الكردي في كردستان إيران هو أكثر فئات القومية الكردية تضررا وافتقادا لأبسط مقومات الحرية والكرامة والعيش الكريم، وهو من أكثر الشعوب جاهزية للتمرد والقتال ضد نظام الولي الفقيه، وللتاريخ القريب ذاكرة تحت رماد الصمت على أهبة الاستعداد للتوقد مع أي ريح تبعث فيه الأمل بالتحرر، وهل هناك من أمل أكثر من استقلال ونشوء الدولة الكردية في العراق؟

مسعود البارزاني والقيادات الكردية على يقين بأن الحشد الشعبي في العراق هو ذراع ميليشياوية للحرس الثوري الإيراني، أي أن مخاطر اشتعال النزاع مع البيشمركة قائمة لأسباب لا تتعلق بإرادة الدولة العراقية بالسيادة على أراضيها، وهي مجرد مدخل لإدارة المشروع الإيراني في القضاء على ما تعتبره تمردا على طاعتها وسيادتها القديمة على القرار الكردي.

افترقت المصالح وتغيرت السياسة والطموحات. أيّ صدام محتمل لن يكون عراقيا كرديا أو بالأحرى عربيا كرديا، بل إيرانيا كرديا رغم أن الطبول وضاربيها عراقيون وبعضهم مواطنون حريصون على عراق عرفوه وعاصروه، عراق موحد من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.

مسعود البارزاني هو نجل الزعيم الكردي التاريخي الملا مصطفى البارزاني، وهو أول رئيس لإقليم كردستان وصرح بأنه لن يرشح نفسه في انتخابات نوفمبر القادم، لكنه سيظل في معايير النضال الوطني لكردستان العراق الأب الراعي أو الروحي للحركة الكردية عموما، وهو يجسد الجيل الذي عاصر المأساة والكفاح المسلح وتقلبات السياسة العاصفة، لذلك نعتقد أن الزعيم الكردي مسعود البارزاني سيسعى بكل قوته وإرادته ليرى حلم الدولة الكردية متحققا في حياته، وتلك هي الهدية الأثمن من الابن لروح أبيه.

الجيل الذي عاصر رحلة الملا مصطفى البارزاني له قوة دفعت باتجاه الاستقلال رغم الحكمة التي يتحلون بها في قراءة ما بعد الاستفتاء وردود الأفعال المحلية والدولية، فالاستفتاء لديهم هو المقياس لواقعية تنفيذ القرار التاريخي؛ أما جيل الشباب فإنه يلتقي معهم في حلم الدولة لكنه يتحمل أوزار التضحيات.

المنطق العام الحاكم في الوضع العراقي هو اللاثقة واللااستقرار في القرارات والأداء والمواقف وإدارة الدولة. الزمن بلا قيمة بناء لمشروع الدولة أو المواطنة أو التنمية وبلا رؤية. النفط كما ضغط الدم يتراوح بين الهبوط والارتفاع، وفي كلتا الحالتين يضرب بقوة حياة المواطنين فقرا وتراجعا لم تسلم منه أي مدينة في العراق.

قائمة طويلة من الاتهامات لإقليم كردستان وقياداته، هي ليست وليدة اليوم، حتى أن مفردات كالاستفتاء أو الانفصال أو الاستقلال لإقليم كردستان من وجهة نظر الكثير من العراقيين الذين جرّبوا مأزق القضية الكردية وتأثيرها على الدولة العراقية وعلى شعبها، يمكن صياغتها بتعبير مضاد: إذا لم ينفصل الأكراد أو يستقلون بدولتهم عن العراق، فعلى العراق أن يستقل بدولته من الأكراد.

يبدو أن تجرّع السم لا مفر منه لكل العراقيين ودون استثناء ومنهم الأكراد. قبول الحقيقة صعب، لكن مع سلطة حاكمة كالتي في العراق لا بد للشعب من عصا يتوكأ عليها ويصفع بها بعنف قطيع الذئاب وأذنابها إلى خارج حدود بلادنا وعقلنا وذاكرتنا.

المصدر: العربي اللندنية

 

 

 

التعليقات مغلقة.