القاصّ عمران عز الدين لــ BUYERPRESS : “الكتابة وحدها زاد خساراتي الأولى والكبرى… “

48

عمران عزالدين

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عمران عز الدين كاتب كردي سوري ، يكتب القصة القصيرة والقصيرة جداً ،و نُشِرَ نتاجه في كبريات الصحف والمجلات العربية ،عمران الذي يعتز بأجداده الكرد ويفخر، فازت قصصه بعدد من الجوائز ، كما ترجم بعضها إلى عدة لغات عالمية.

حول مجامعيه ، وقصته مع قصته الأولى ، حول قراءاته وانشغالاته وأصدقائه الذين يحرص على التواصل معهم، والقراءة لهم ، حول الربيع السوري، وهمه الكردي كان لنا معه هذا الحوار

أجرى الحوار : خالد عمر/الحســــكة

خاص BUYERPRESS

ـ ما الشرارة التي دفعت عمران عز الدين لكتابة القصة ؟ ماذا عن قصتك مع القصة الأولى ؟

يمكنني القول إن ما ارتكبته / اقترفته في بداياتي لم يكن يمت إلى جنس القصة بأيّ صلة . كنتُ أخط قصاصات مجنونة في حارة بائسة، لأتركها ، وبعد أن ينتصف الليل ، بالقرب من نافذة كانت تطل على باب بيتنا ، لتقرأها صباحاً فتاة كنتُ أخجل من البوح بمكنوناتي ومشاعري الجياشة في حضرتها، كانت تكبرني ببضع سنوات، وكانت تُضرب بشكل غريب من قبل أهلها ، فكنتُ أسألها في تلك الكتابات عن سوء معاملة والدها لها ، لكنها كانت تلتزم الصمت ، ثمّ .. وبدون مقدمات ، فُجِعْتُ في صباح خريفي باهت بوفاتها!. ومن هنا ربّما كانت الكتابة ـ الكتابة وحدها ـ زاد خساراتي الأولى والكبرى…

حاولتُ بعد ذلك أن أصبَ تلك القصاصات في قالب إبداعيّ كنتُ قد وضعت له مسبقاً الضوابط والأركان بعد أن كان العزم قد أستقر على تسمية ما لذلك القالب ، هكذا كان المراهق الذي كنتُه يفترض أن تكونَ عليه الكتابة . ما كان يخطه أنا الحالم والمتأمل وقتذاك لم يكن شعراً وقصاً ومسرحاً أو رواية، كان أقرب ما يكون لنص مزدحم بمشاعر مرهفة وعواطف مجدولة بنوع من الانكسار، وفيه ما فيه من الشعر والقص والمسرح على حد سواء، يمكنكَ أن تعتبره نصاً مفتوحاً على كلّ تلك الأجناس الأدبية، الأمر الذي أدى به إلى غربة عانى منها طويلاً، كانت من أهم نتائجها تمزيقه لمخطوطة كفر بها وبخالقها على الدرجة ذاتها.

شبّ ذلك المراهق ، وتوقف بعد ذلك تماماً عن الكتابة، ثمّ شرع بالقراءة ، وكان يلتهم أي كتاب يقع بين يديه ، بغض النظر عن موضوع ذلك الكتاب أو أفكاره ، وما إذا كان يندرج في خانة الأدب أو خانة اللا أدب !. وشيئاً فشيئاً تشذبت قناعاته إلى أن هدأت بعد ثوران واستقرت . كان من الصعوبة بمكان أن يتصرمَ يوم دون يقرأ فيه، ودون أن يتزودَ بعدة وعتاد ودروس وعِبر على أمل ادخارها ليوم مناسب. فقرأ وتتلمذ على أيدي كتّاب كبار : تشيخوف .. دوستويفسكي .. ماركيز .. يوسا .. كالفينو .. كورتاثار .. نجيب محفوظ .. إحسان عبد القدوس .. طه حسين .. وحنا مينه . وكان في كلّ قراءة يتساءل أن ما الذي يمنعه أن يكتبَ نصاً يوازي في قيمته العبقرية نصاً ما لكاتب من أولئك الكُتّاب الذين تمّ ذكرهم في هذا المعرض ؟.

لم يكن الإعلان الذي قرأه بعد ذلك عن مسابقة أدبية عربية كبيرة طوق نجاة بأي حال، لكنه استحضر تلك العدة المدخرة، وقرّر أن يكتبَ فقط ، فكتب في شهر ونصف الشهر تقريباً، وهي المهلة المتبقية من عمر تلك المسابقة، مجموعة قصصية وسمها ـ ويا للغرابة ـ بـ ” ضجيج الانتظار ” ، وكانت النتيجة فوز مجموعته بتلك الجائزة .

طقسي / قصتي مع قصتي الأولى قصة طقس شكّلَ في مجمله مدماكاً لمخاض / ولادة أسرودة ، أو قصة قيض لها أن تسم مشواري الأدبي بميسمها ، وكانت النتيجة صداقات أدبية ، ومجاميع قصصية ، ناهيك عن مقالات ودراسات معنية ومهجوسة بهذا الفن الطاعن جذوره في الإبداع .

ستسألني لماذا القصة بالذات ؟ وسأقول لك أن هذا هو السؤال الذي لن أملَ البتة من طرحه على نفسي، لأنني إن توقفت عن طرحه لبرهة، فهذه خيانة مع سبق الإصرار والترصد لمفارقات حياة حبلى بالمفاجآت ، ولأن القصةـ أيّة قصة ـ لا تستقيم دون خاتمة ، فقارئة خيباتي أيضاً لم تمت ميتة طبيعية ، بل انتحرت في ظروف غامضة ، لا يعلمها إلا ذلك الرجل الذي شاءت الأقدار أن يكونَ والداً لها.

ـ من يكون عبد الستار في مجموعتيك ” يموتون وتبقى أصواتهم “و ” موتى يقلقون المدينة” ؟

عبد الستار هو الضمير الأوحد الذي لا شريك له بين جميع ضمائر الرفع والنصب المنفصلة والمتصلة. هو أنا إذا جاز القول، وأنتَ على نحو ما، ومن يدري.. قد يكون قارئ هذه السطور أيضاً ؟ ثمَّ هو التهميش والنخر والإقصاء الذي طال أدق مفاصل ومؤسسات وأوردة الحياة، وجميع الكائنات المتمردة، لكن المُسالمة على نحو ما، العاقلة منها وغير العاقلة، حتى آلَ بها المقام إلى كائنات متصحرة ومُتخشبة ونمطية، وبهائم يصرفها عن المعرفة طيب المرعى، إلى درجة القنوط والمسخ والعدم.

عبد الستار مغضوب عليه إلى يوم يبعثون، مريض حتى النخاع ومستاء ، صور الإهانة والضرب والمسخ لا تفارق مخيلته في ” وقائع يوم الأربعاء ” و” الرجل الشفاف”. هو الشريد والمتشرد دائماً وأبداً، هو كآدم في خطيئة الخطايا التي ارتكبها، فهو ليس اسماً مندرجاً في خانة الأسماء الحُسنى. ليس من قافلة الأسماء التي تُعرف بخير الأسماء ما حُمِّدَ وعُبِّدَ. فهو على ما هو عليه في نضال مستميت وشرس، لانتزاع الهوية، وصكّ الاعتراف به، للعيش جنباً إلى جنب مع أخوانه المشتتين على سطح البسيطة، مثله مثل راسكولينكوف وجان باتيست غرونوي وغريغوري وأوركاديو وحنظلة وهيبا ومصطفى سعيد وعاشور الناجي ومفيد الوحش وآخرون.

ـ لماذا تكتب القصة القصيرة جداً ؟

لأنها مثلي، ترفض الإقصاء والتهميش، ولأنها الكاشفة والحارسة والثائرة والمناضلة والهادرة والفاضحة، لكلّ فعلٍ شائنٍ تمَّ في الخفاء وبالإكراه، دون أن تتمكنَ ـ في أبسط الأحوال ـ من أن تُصوّتَ بالرفض عليه، دون أن تكونَ عضواً في لجنة التصويت، ليتسنى لها أن تعدلَ فيه ما أمكنها إلى ذلك من سبيل، ولتقومَ تالياً بتشذيبه من إرعابيته. أكتبها لأنها تصدّت لِما تغافلت عن فعله بعض الفنون السابقة لها، فلا موانع ولا تابوهات ولا معايير أدبية مقدسة في أجندتها، أكتبها لأن ناتالي ساروت ويوجين يونسكو وبورخيس وجبران كتبوها ، أكتبها أيضاً لمواكبة المستجدات والمتغيرات التي تتطلب عدّاءً ماهراً في سباق المسافات الأدبية القصيرة بنفس سردي مكثف ورائق وقصير عملاً بـ : ” البلاغة في الإيجاز” و ” كلما ضاقت العبارة اتسعت الفكرة “.

ـ من يقرأ” موتى يقلقون المدينة “يجدها تقترب لتكون فصولاً متتابعة في عمل روائي متكامل ؟

ـ كلّ قصة من قصص المجموعة تحتفي بالموت على طريقتها الخاصة ، فمن رجلين يحلمان الحلم نفسه ليكون أحدهما قاتلاً والآخر قتيلاً كما في ” رجلان وحلم واحد” ، إلى ميت تمّ دفنه لكن بقيت روحه تصول وتجول بين الناس كما في ” لمن تبتسم الملائكة ؟”، إلى آخر ينهار تدريجياً ، ويلتقي وجهاً لوجه ، مراراً وتكراراً مع قابض روحه ، متوقعاً كلّ النهايات ، لكن دون أن يتوقعَ نهايته الحتمية كما في قصة ” أنا وهو ” ، مروراً بتكليف أحد المسئولين لميت بتقصي أخبار جيرانه الأموات ، لكنه يرفض ليموتَ مرة ثانية كما في ” أجوبة على أسئلة الوصية” ، وصولاً إلى تخيلي لإحياء الموت ذاته عبر بعض القصص كما في ” مشهد رمادي في شارع الموت ” و” تفسير آخر لحكاية النهر”.

 

ـ هل يكفي أن يكون الكاتب مهمشاً على الأرض ليكون مصفداً في بياض الورقة ؟

لا أظن ذلك بالرغم من مشاطرتي للماغوط الذي قال يوماً : ” لا تمر موهبة من دون عقاب “، لأن الكاتب ـ الكاتب الحق ـ لم ولن يأبه للأغلال والأصفاد والأفخاخ والألغام، وهو يعي تماماً أن لا بند في مسيرته أو معركته الوجودية والإبداعية يلزمه بالرجوع إلى الخطوط الخلفية ليكونَ من جديد مهرجاً ومصفقاً وببغاء يردد صباحاً على مسمع الجمهور ما يُملى عليه مساء من السلطان وحاشيته.

ـ لمن تقرأ الآن ؟

ـ انتهيت اليوم من قراءة ” محال ” للمصري يوسف زيدان، كما قرأت له ” النبطي” و” عزازيل “…إنه أستاذ بكلّ المقاييس الروائية.

ـ من هم أهم كتاب القصة العربية الذين استوقفوا عمران عز الدين .. من جيل الشباب تحديداً ؟

تجربة المغربي أنيس الرافعي من أكثر التجارب التي استوقفتني ، ومن حسن الحظ أنه تسنى لي قراءة جل مجاميعه القصصية ، ويأتي تقييمي استناداً لقراءتي المتأملة لمتنه القصصي برمته ، وهنا سأحيل القارئ أن ينصتَ لما أبدعه أنيس في عمليه القصصيين ” الشركة المغربية لنقل الأموات ” و ” أريج البستان في تصاريف العميان”. استوقفتني كذلك أسماء قصصية دأبتُ على قراءتها في بعض الصحف والمجلات والمواقع الانترنتية ، ومنها : السعودي فهد العتيق والعراقي حسن بلاسم واليمني وجدي الأهدل والسوري إبراهيم فرحان خليل .

ـ وماذا عن الشعراء من جيل الشباب ؟

ـ يشدني ما تكتبه الشاعرة اللبنانية سمر دياب ، إن سرداً ، وإن شعراً ، وهي من أهم الشاعرات إن لم تكن أهمهن على الإطلاق . أشعار جلال الأحمدي ، وهو شاعر يمني ، تعجبني ، يروق لي ما يكتبه هذا المشاغب عن الأبواب والأقفال وعلب السردين والحب والحيطان والأشجار و ….

ـ ومن هو الروائي الذي استوقفتك عوالمه ؟

ثمّة أسماء كثيرة حقيقة، لكن تجربة الجزائري سمير قسيمي ، وهو روائي شاب ، مختلفة حقاً ومتفردة ، ويكفي أن تقرأَ له ما كتبه في روايته ” الحالم ” ، فالطابع السيري لهذه الروايـة متخيل وواقعي على حد سواء ، فيها من ذات قسيمي الروائية ، وفيها ما فيها من الخيال الروائي الجامح. بمعنى أن العالمين الروائي والحقيقي في ” الحالم ” يتصادمان بعنف كما خلصت لذلك ناتسيو كيرينو في معرض تشخيصها لأسلوبها الروائي . يبلغ دهاء القسيمي مداه عندما يطيح بالنظريات والوصايا الروائية ذات الحبكة المعجوقة الواحدة إذ يعمد إلى تهديم الضروري لتشييد الممكن ، مثله مثل التشيكي ميلان كونديرا الذي فعل أمراً مماثلاً عندما قدم الشخصية الروائية في مؤلفه ” خيانة الوصايا ” .

ـ وهل ثمة ناقد شاب استوقفك مساره النقدي ؟

ـ يعد سعيد بودبوز ، وهو ناقد مغربي ، من طينة النقاد الكِبار . يكتب سعيد القصة والرواية والشعر ، لكنه مدهش عندما ينقد نصاً ما ، ويكفي أن يقرأَ القارئ كتابه النقدي ” بين ضفة السراء وضفة الضراء … مقاربة سيميائية “. فالناقد في كتابه هذا اعتمد نهجاً مغايراً لأسلافه من النقاد عندما انقلب عليهم وعلى أحاجيهم / كتبهم التي تزخر بمصطلحات ونظريات يكاد لا يفهم منها الناقد المختص ذاته إلا النزر اليسير.

ـ هل تلم بما يكتب باللغة الكردية ؟ هل من الممكن أن نقرأ لك في يوم ما عملاً أدبيا بلغتك الأم ؟

ـ الأدب الكردي ومروياته موغلان في العراقة والإبداع ، فالفلكلور الكردي وتراثه يزخران بأبلغ القصص والجدات والملاحم والأساطير والمآثر، وما يدعو للأسف حقاً أنه تمّ تحوير هذا الكنز دون رحمة ، ودون تقدير ، إذ ناله ما ناله من البتر والتلف والسرقة ، ناهيك عن تفريسه وتتريكه وتعريبه وتغريبه ، ربّ سائل : على من تقع المسؤولية إذاً ؟ تقع على الجميع ، وحري بنا أن نلمَ هذا الأدب من شتاته ، أن نضخَ الدم فيه من جديد ، وأن نستردَ بضاعتنا التي اُغتصبت منا . فالأدب ـ كما تعلم ـ مقياس فيصل وأمثل لتحضر الأمم والشعوب على حد سواء.

أما فيما يتعلق بالشق الآخر من سؤالك ، فيسرني يقيناً أن أكتبَ بلغتي الأم وأبدع، وهو واجب عليّ أعيه وأقدره تماماً ، وكان من الممكن أن تقرؤوا هذا العمل لولا “المؤامرة الكونية” على الشعب السوري ناهيك عن عوائق وظروف شخصية حالت دون ذلك.

ـ برأيكم ماذا قدمت اتفاقية “هولير” للشعب الكردي في سوريا ؟

ـ كان من الممكن أن تقدم الكثير لكن للأسف تمّ وأدها رغم ما بذلته قيادة إقليم كوردستان من جهود جبارة لإنجاحها. ثمّة من يقول أن هذه الاتفاقية قد اُخترقت من قبل جهات أجنداتية معينة على حساب جهات أخرى معطلة وغائبة عن المشهد الكردي… وبالمحصلة إذا استمرت حالة الشقاق هذه بين الكرد على الأرض لن يجدي معها أي اتفاقيات مكتوبة على الورق.

ـ هل أخفق الربيع السوريّ ؟

ـ الربيع لا يخفق ، يأتي رغم أنف المتربصين به مرة في كلّ سنة ، ولا تستطيع كلّ الدكتاتوريات أن تمنعَهُ من أن يلد ويكونَ مشعاً ، نضراً ، ومزهراً على الدوام . ما حدث في سوريا هو عسكرة هذا الربيع ، والعبث بأشجاره وعصافيره ووروده ، لكنني على يقين أن الرصاصَ مقهور لأنه سيُنفد في يوم ما ، أما الربيع فلا يُقهر ولا يُنفد وهو قادم عاجلاً أو آجلاً شاء من شاء وأبى من أبى .

التعليقات مغلقة.