الرواية والجاسوسية

10
_74
هيثم حسين – كاتب سوري

يظلّ الروائيّون في دأب للنبش في قضايا تاريخية وزوايا معتمة تحتفظ بالغموض والتشويق، لمقاربتها وفكّ بعض الألغاز والأسرار المحيطة بها من خلال استقرائهم التاريخيّ واستنطاقهم للأرشيفات.

تعدّ الجاسوسيّة من القضايا التي سعى روائيون إلى مقاربتها والإدلاء بدلوهم الروائيّ فيها، من خلال اقتفاء سير جواسيس مشاهير هنا وهناك، أو عبر ضخّ الرواية بالمزيد من التشويق، عبر مقاربة عالم يحفل بالغموض والدسائس والمؤامرات على مستويات عالية.

أخرج البرازيلي باولو كويلهو في روايته الجديدة “الجاسوسة” من الأرشيف الخبر الصحافي الذي وثق إعدام ماتا هاري رمياً بالرصاص سنة 1917، وكيف أن مجلس الحرب الثالث في باريس كان قد حكم عليها بالإعدام بتهمة الجاسوسية والأعمال الاستخباراتية لصالح العدو الألماني.

تناول شرارات ممهدة للحرب العالمية الأولى، والكراهية التي كانت في تصاعد قبل اندلاعها، وكيف أنه كان هناك في كل طرف من ينتقص من الآخر بطريقة شعبوية، دافعاً الأحداث إلى التفجر، وكيف أن حفنة من الضباط كانت تقود ملايين البشر إلى الموت والجوع والحرب.

أحيا كويلهو المرأة الهولندية التي اشتهرت باسم ماتا هاري؛ والتي ألهبت مسارح باريس ومدنا أوروبية عديدة في بدايات القرن العشرين، والتي كانت قد وصلت إلى درجة من اليأس دفعتها للاتفاق مع القنصل الألماني في هولندا على أن تزوده بالمعلومات والأخبار من فرنسا، وكان قد اختير لها اسم حركي تعريفي يرمز إليها لتوقع به رسائلها التي يفترض أن تكتبها بالحبر السري، تنقض اتفاقها معه، وتخبر الجانب الفرنسي بذلك، وبدأ الجميع يشكك بها، ويعتبرها عميلة مزدوجة، ويتم إعدامها بناء على الظنون والشكوك.

في الأدب العربي اشتهرت رواية “رأفت الهجّان” للمصري صالح مرسي الذي اتّكأ على قصة مخابراتية، وهي حكاية الجاسوس المصري الشهير رأفت الهجان الذي نسجت من حوله الأساطير، حتى غدا أسطورة بحد ذاته، وكان الخيال الروائي بالنسبة لمرسي وسيلته لإسباغ التحبيك والتشويق على الرواية، وينفخ في الشخصية الغامضة حياة درامية مفترضة، ويعيد بثّها وإطلاقها بطريقة أخرى.

مؤخراً استعان السوريّ إبراهيم الجبين في روايته “عين الشرق” بالأرشيف المتعلق بمحاكمة الجاسوس الإسرائيلي الشهير في سوريا في الستينات من القرن العشرين إيلي كوهين المعروف باسم كامل أمين ثابت، الأرشيف الذي يقول راويه إنه استلمه من أحد العاملين في سلك المحاماة والقضاء في سوريا، ويتناول تفاصيل المحاكمة ويسردها، ويحيي شخصية كوهين الغامضة بطريقة روائية، ويكشف من خلالها النقاب عن بعض المفارقات السياسية والاستخباراتيّة والاقتصادية التي كانت تجري في البلد حينها.

يظلّ الروائيّون في دأب للنبش في قضايا تاريخية وزوايا معتمة تحتفظ بالغموض والتشويق، لمقاربتها وفكّ بعض الألغاز والأسرار المحيطة بها من خلال استقرائهم التاريخيّ واستنطاقهم للأرشيفات وبحثهم ما بين طيّاتها وسطورها، ونقلها إلى قرّائهم بصيغ روايات متخيّلة، تعتمد على التاريخ وتنطلق في فضاء التخييل.

العرب اللندنية

التعليقات مغلقة.