غداً سنودّع أحلامنا (نصوص من الذاكرة)

28

1

غداً-سنودّع-)
فراس محمد

تتراءى لي تلك الأخيلة كسراب بعيد، أمضي نحوها فتتراجع وتبتعد، تلوح لي مبتسمة، ثم تتلاشى، بيد أنها تترك في إثرها صدى أول أغنية أتذكرها منذ طفولتي الباكرة، الأغنية التي سمعتها في بيت جدي الطيني في القرية، فحيث أدار خالي المذياع على صوت يرييفان، صدح صوت أنثوي: أز بفرم.. بفرم .. بفرم.. لى لى نار لى لى نار.. كانت الفرش القطنية والملاحف ذات الأغطية الملونة الممددة فوقها، مرصوفة إلى جانب بعضها البعض على طول الغرفة الطينية.. وكان ضوء مصباح الكاز الخافت يتأرجح ببطء فتبدو ظلال الأشياء مرتجفة ومشوّهة.. استرسلنا نحن الصغار في الأحاديث الشيّقة، وفي نقاش مشاريع اليوم التالي..: نصب الفخاخ للعصافير في الحقول.. الذهاب في جولة على الحمار، أو الصعود إلى التلة العالية التي تطل على القرية حيث قبور الأجداد تفترش المكان.. من هناك تستطيع أن تطالع القرى المجاورة التي يخيم عليها السكون كأنها خاوية على عروشها.. من بعيد هناك قرية خربى كجي وبيرا بازن وجوْلمة وبلّا بكّارة.. وغيرها قاطع خالي هسيسنا، مهدداً..: – إن لم تناموا.. سيأكلكم “صدّام” ألا تسمعون صوته، في إشارة إلى صوت كلب جار خالي الذي لا يكف عن النباح ليلاً.. دسسنا رؤوسنا تحت اللحاف، متخيلين “صدام” وهو يدخل الغرفة ويهاجمنا، ثم يبتلع أجسادنا الغضة دفعة واحدة بفمه الكبير..

2

حتى الأمس القريب كان شمال طفلاً، أقله قبل أن يغادر فجراً إلى إقليم كردستان.. كنت أتصور أن هذا المكان هو الوحيد الذي سنكبر فيه، ونترك فيه ذكرياتنا على تقشفها.. وهو ما لم يحصل. كنت أريده أن يمتلك كتبي الكثيرة التي جمعتها خلال سنوات طويلة، وكنت أُحبّبه بها كلما زار بيتنا.. وأتعمد أن يساعدني في تنظيفها وترتيبها.. في الفترة الأخيرة لم يعد هناك متسع لكتبي فنقلتها إلى غرفة السطح، حيث تترك الأشياء المهملة.. وضعتها في خزانة صغيرة قديمة مخلوعة الباب، وكنت حزيناً أن يُترك إرثي هناك بين الأشياء التي لا تحمل أي قيمة بعد أن كانت تعني لي كل شيء.. كنت أفهم الأمر على أنني دفنت جزءاً عزيزاً علي في مقبرة على السطح.

 3

 في الحاجز الأخير للنظام، سألني العنصر وهو يفتش الهويات: إلى أين ستذهب، وفكرت لمَ عليّ أن أجيب على سؤال بديهي، يفترض أن ذلك العنصر نفسه يعرف الإجابة، ذلك أن الجميع ذاهبون إلى الوجهة ذاتها، قلت وسط دهشة الجميع ونظراتهم: – إلى كردستان..

 بنظرات تحمل الدهشة أكثر من أي شيء آخر رمقني العنصر، ونزل من الحافلة دون أن يكمل قراءة بطاقتي الشخصية. انطلقت الحافلة بين تلك القرى المتناثرة على جانبي الطريق، وتلك الأزهار التي استفاقت في ربيع متأخر لتودع الراحلين في محطة الغياب. تمعّنت في وجوه الناس، وحاولت أن أحتفظ بتلك الملامح الحميمة التي سأشتاق إليها لاحقاً، النسوة بوجوههن الأليفة وهن يمضين لابتياع الحاجات من السوق، والأطفال وهم يتسكعون بكسل وبوجوه مطفأة بحثاً عن صديق يشاركهم اللعب في وقت عزّ فيه الصديق!.. بعد أن عبرنا النهر، نزلت امرأة صغيرة وهي تبكي، كانت تحمل طفلها، محاولة جر كيس كبير فيه أمتعة وملابس وفِرَش، ساعدتها في إنزاله من الزورق وحمله إلى المكان المخصص في المعبر، وعدت مرة أخرى لأحمل أشيائي. بينما كنت مشغولاً بتصوير أوراقها، كانت تتكلم من هاتفي مع أهلها وعرفت منها أنهم سيأتون، ولكن سيتأخرون قليلاً.. لم أكن أعرف سبب بكائها المستمر، ولم أسألها عن ذلك بطبيعة الحال، ففي تلك المحنة كان يمكن لأي شيء أن يكون سبباً. العشرات منا تركوا – في الجانب الآخر من النهر- قصصاً قاسية، موغلة في الألم. بعد أن استكانت، وهدأ روعها، ودّعتها.. ومن بعيد لمحت بقايا دموع في عينيها.. وكنت أفكر بأن ذلك المعبر – الذي ودعنا فيه أحلامنا- سيحمل كثيراً من قصص الألم، ولن تكون هذه آخرها.

نشر هذا الحوار في العدد 60 من صحيفة Buyerpress.. تاريخ 1/3/2017


33311

التعليقات مغلقة.