دور القلق الغريزي في تطور الحياة

97
%d8%b3%d9%84%d9%8a%d9%85%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a7%d8%b3
    د. سليمان الياس

هناك تساؤلات ازلية للبشر مثل موضوع الكون هل هو خليط من الذرات التحمت وتجمعت بشكل عفوي أو هناك تنسيق منظم تتجسد فيه القصد والتصميم ؟ اما الحياة نتيجة جانبية  لعمليات مادية، أو أنها خاصية أساسية في نظام الأشياء ؟ وهل عملية التطور جاءت خبط عشواء ، وهل الانسان يصوغ حياته كما يشاء ؟ ، أو أن ارادته يقررها ما في تكوينه الجسمي من أفعال انعكاسية ، وما لديه من غرائز وأفعال لا ارادية ؟

هذه التساؤلات و غيرها موغلة في القدم تعود إلى تلك الفتر التي ظهر الانسان وعلى وجه التحديد , النياندرتال الذي بدأ بدفن موتاه وممارسة الطقوس الدينية أي حوالي 80 ألف سنة مضت – وممارسته للفنون منذ ذلك التاريخ المذكور.

والفن كما يبدو لنا ما هو إلا أقدم المحاولات البشرية التي عملت  على تحويل أفكار الإنسان ، الناتجة عن الدماغ على شكل طاقة إلى شيء مادي يمكن تخزينه وتوارثه ونقله لأجيال اللاحقة. وأولى الأسئلة التي راودت مفكري ذلك العصر أي شخصياته كانت تنصب على معرفة سر الحياة و الموت ,ومع مرور الزمن أخذت هذه الأسئلة تتبلور اكثر حتى بلغت في عصرنا هذه الصيغة التي اشرنا إليها .

ومما لا شك فيه ان جميع النظريات الفلسفية التي عرفها التاريخ القديم والحديث ما هي في حقيقتها إلا محاولات الإجابة عن هذه التساؤلات   الملحة التي لا نكف عن ترديدها مهما بلغ العلم من تقدم و تطور  ومن أقدم  هذه النظريات هي نظرية لويد مورغن المعروفة باسم / نظر التطور المبتدع / ، حيث يعتقد مورغن ان الحياة عبارة عن نشاط منفصل عن المادة ، وباتصال هذا النشاط مع المادة يتكون الحياة إضافة إلى ذلك فان مورغن يؤمن بان لحياة هدف ترمي الوصول إليه  ، والوسيلة التي اختارتها الحياة للوصول الى هدفها هي عملية التطور وخاصة التطور المبتدع ، يختار مورغن ، الماء كمثال على ذلك ، حيث يقول ان عنصر الأوكسجين يختلف بخواصه كل الاختلاف عن الماء وعن عنصر الهيدروجين ولكن بامتزاج عنصري الأوكسجين والهيدروجين بنسبة ذرة من عنصر الأول وذرتان من العنصر الثاني يتولد الماء , ويختتم هذا العالم نظريته بقوله اننا غير قادرين في الوقت الحاضر على تحديد الهدف الذي ترمي الحياة الوصول اليه.  وسبب اختيارنا لهذه النظرية هي انسجامها مع الانسان وتركيبته ، حيث ان الانسان يحوي في داخله على الدافع الذي لا يتوقف ، والذي يدفع الانسان دائماً وأبداً نحو التطور ، وهذا الدافع هو قلق الانسان الغريزي على حياته . ومن تأثيرات هذا القلق ، هو أن الانسان يشعر باستمرار بان سعادته ينقصها شيء ما ، فإذا كان الغذاء شحيحا عنده ، يعتقد ان اكتمال سعادته سيكون بحصوله على الغذاء الكافي ، وإذا كان غير موفق من الناحية العاطفية  ، فيعتقد أن سعادته ستكون عظيمة إذا ماحلت مشاكله العاطفية  . وهكذا الحال مع كل متطلبات الحياة .

وما دام هذا القلق يتعلق بحياة الانسان ، لهذا نجد ان له بداية ولكن ليس له نهاية أبداً :وبدايته تتمثل في رغبة الانسان في الحصول على الغذاء أولاً  لأن الغذاء هو عماد الوجود الآني للإنسان . ومن بعد الغذاء يتوجه للحصول على الجنس ، لان الجنس يعمل على استمرارية  النوع والحياة . وسبب عدم وجود نهاية للقلق ، هو كونه غريزي .

والغرائز كما نعلم ثابتة في الجسم البشري ولا يممكن إزالتها أو تغييرها ، بل يمكن تهدئتها إلى فترة معينة ، ولهذا السبب بالذات يجد الانسان باستمرار بان امنياته وهي في طريقها إلى التحقيق أجمل بكثير من تلك الأماني وهي محققة ، لأن وهي في طريقها إلى التحقيق تبدو وكأنها ستوفر السعادة الدائمة للإنسان .

والحقيقة ان هذا القلق الغريزي ، وان هو يسلب من الاشياء  التي تنالها اهميتها إلا انه في الوقت نفسه يمثل المحرك الاساسي للحياة والدافع الفعال إلى عملية التطور ، لأن الانسان كلما ينال شيئاً يجد بأن ذلك الشيء لم يزل منه قلقه بصورة نهائية ، ولهذا يسعى إلى الحصول على شيء آخر مختلف او اكثر تطوراً من الشيء الذي امتلكه ، ولهذا نجد ان مبتكرات الانسان في تطور مستمر ،  وعليه يمكننا اعتبار مبدأ التطور عبارة عن عملية خلق اماني جديدة كي يسعى الانسان غلى الحصول عليها ، وإلا فان الانسان يمل من الحياة ولا يريد الاستمرار فيها .

ومن خلال ما تقدم يتوضح  لنا جلياً أهمية الشخصيات التي تلعب دوراً بارزاً في تطور الحياة ، سواء كان ذلك التطور من الناحية المادية أم الفكرية أم الفنية ، بدون هذه الشخصيات التي تخلق باستمرار آفاقاً جديدة للحياة ، لكانت الحياة عبء ثقيل لا يستطيع الانسان تحمله ،

واهمية الشخصيات تبرز من ان البشر وبقية الكائنات الحية يتطورون ويطورون الحياة تطوراً اعتيادياً بينما الشخصيات العلمية ضمن البشر يطورون الحياة تطوراً مبتدعاً ، حيث ان ثقافتهم وعلمهم الواسع وسعيهم المستمر لزيادة معلوماتهم يمكنهم باستمرار من مزج فكرتين او اكثر لخلق فكرة جديدة تخدم تطور الحياة . وإن دلت هذه الحقيقة على شيء فانما تدل على أن الشخصيات العلمية لا يهمها من الحياة سوى معرفة الطريق المؤدي إلى مبتغاها . اما الشخصيات الادبية والفنية فانها تسعى بالدرجة الاساس لأن تجعل مسيرة الحياة وهي في طريقها إلى بلوغ هدفها الأخير جميلة ، ولتخفف أيضاً من مشقات تلك المسيرة ، والشخصيات العلمية لا يتوقف دورها على التطور المبتدع فقط . وإنما قدرتها على خلق مجالات جديدة ووضع تلك المجالات في خدمة عملية التطور ، حيث ان ظهور العلوم الطبيعية والانسانية والفنون والآداب في حياتنا نحن البشر لم يكن نتيجة لجهود الانسان الاعتيادية ، بل كانت بالطبع نتيجة لجهود إناس متميزين ، نسميهم الشخصيات العليمة ان كانت ابداعاتهم في مجال العلوم وبالشخصيات الفنية أو الادبية ان كانت إبداعاتهم في مجال الفنون والآداب ، والشيء نفسه ينطبق على المجالات كافة .

فالشخصيات المبدعة بمختلف انواعها  هي التي ترسم الطريق وبقية الناس يسيرون خلفهم ، ولهذا يمكننا القول بان كل شخصية تعد قائداً مبتدعاً في مجال تخصصها . وهذه  الحقيقة الخاصة بدور الشخصية القيادية تحمَل الشخصية العلمية ,السياسية ,الفنية والادبية مسؤولية تاريخية عظيمة لأنها إن لم توجه المجتمع في الاتجاه الذي يتناسب ومتطلبات ذلك المجتمع فأنها تتحمل مسؤولية ما يصيب الناس من ضرر او تأخر. و مما لا شك يتوفر في كل مجال من مجالات الحياة المختلفة اكثر من شخصية واحدة  ولكن الشخصية الرائدة والتي لها تأثيرها في المجتمع هي تلك التي تتناسب أفكارها مع هدف الحياة في تطورها. والافراد يتقبلون طروحات مثل هذه الشخصيات وإن كانوا لا يدركون منها الكثير ولكنهم يتحسسون صلاحيتها بغرائزهم والدليل على ذلك ان التاريخ القديم  شهد الكثير من العلماء والأدباء والسياسيين والشعراء ولكن لم يصلنا منهم إلا الذين صنعوا التجديد فعلاً في مجالات تخصصهم ,وبناءً على ذلك يمكننا القول ان الافكار التي حملتها البشرية عبر عصوره المختلفة هي من صنع الشخصيات فعلاً .

نستنتج مما تقدم انه بسب القلق أصبحت رغبة الانسان في معرفة الأشياء الجديدة تكاد تكون غريزية ما دام الدافع إليها غريزياً وهذه الرغبة في المعرفة هي التي دفعت بالكيميائي إلى مخبره محللاً المادة مرة ومركباً في المرة  الثانية, وهي التي دفعت بالفلكي ليسبر بمنظاره مجاهيل السماء مثبتاً عليها المجرات والنجوم ومختلف الاجرام السماوية, ونفس هذا الرغبة هي التي دفعت بالآثاري لأن يغور في اعماق التاريخ ليتعرف من خلال ذلك على حياة الانسان القديم ، و ما اذا كانت خاضعة لنفس القوانين التي تخضع لها حياتنا الراهنة .

و هنا قد يتساءل  بعض القراء عن الفائدة المتوخاة من دراسة التاريخ والآثار ، و هنا تاتي الاجابة بانه رغم ان هدف الحياة  ليس في طيات الماضي بل يكمن في مجاهيل المستقبل, إلا ان دراسة هذين الموضوعين لهما اعظم الأثر في معرفة هدف الحياة حيث مما هو معروف ان العلوم بشكل عام تنقسم الى قسمين اساسيين هما العلوم الطبيعية والعلوم الانسانية والقسم الأول من هذه العلوم يبرهن على صحة نظرياته وابتكاراته من خلال التجربة العملية سواء كانت تلك التجربة في الطبيعة مباشرة او في المخبر, بينما العلوم الانسانية كانت في بدايتها تفتقر إلى المخبر الذي يبرهن فيه صحة النظريات التي نتوصل إليها غير ان المبدعين في مجالات العلوم الانسانية لم بغض الطرف عن ايجاد المخبر المناسب لطبيعة علومهم حتى تلمسوا بوضوح بان افضل مخبر يمكن ان تبرهن فيه صحة النظريات التي تتقدم بها العلوم الانسانية هو التاريخ بشكل عام وعلم الآثار بشكل خاص ولتوضيح اسلوب العمل في هذا المخبر العظيم فأنه يتلخص في اخضاع التجارب القديمة للنظريات الحديثة التي تنبع عن دراسات العلوم الانسانية فإذا كانت النتائج القديمة مشابهة للنتائج التي تتوقعها النظريات الحديثة فأننا ولا شك سنتيقن من صحة هذه النظريات وإذا كانت النتائج غير متطابقة فما علينا إلا إعادة النظر في نظرياتنا, وبسبب هذه الحقيقة نجد ان الناس يرددون باستمرار ان علينا ان نتعلم من تجارب الاقدمين .

وفي الظل الواقع المأساوي الذي نعيشه في الوقت الحاضر  كان مفيداً ان نستفيد من تجارب الماضي لكي نتلمس سبيلنا في المستقبل .

وما أكثر تجاربنا نحن أبناء هذه الأرض, والبيئة الغنية التي كانت منبعاً للتجارب السالفة, حيث نعيش على أرض تعاقبت عليها عشرات الثقافات والحضارات المختلفة, وكانت شاهدة على مئات الوقائع التاريخية, فكل ذرة من ترابها المعجون بعرق مزارعيها ودماء المدافعين عنها, تستطيع أن تحكي قصصاً لا تنتهي لو نطقت .

الدكتور سليمان إلياس

 

التعليقات مغلقة.