رسائل تفجيرات تركيا

34

رسائل سياسية وأمنية
من يقف وراء التفجيرات
في التداعيات والمواجهة

%d8%ae%d9%88%d8%b1%d8%b4%d9%8a%d8%af-%d8%af%d9%84%d9%8a
خورشــيد دلـــي

توحي سلسلة التفجيرات الإرهابية التي تضرب قلب المدن التركية بأن تركيا باتت في دائرة الاستهداف المباشر، ومع أن وتيرة هذه التفجيرات خفت عقب الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو/تموز الماضي؛ فإنها تصاعدت في الآونة الأخيرة.

فمن رمز البلاد السياسي (أي العاصمة أنقرة) إلى عاصمتها السياحية إسطنبول وصولا إلى ديار بكر رمز كرد تركيا… وغيرها من المدن، باتت تركيا تشهد سلسلة تفجيرات إرهابية على شكل رسائل سياسية وأمنية، يجمع المحللون الأتراك على أنها تهدف إلى ضرب استقرارها وإظهارها دولة فاشلة.

رسائل سياسية وأمنية

لا يمكن النظر إلى هذه التفجيرات بعيدا عن التطورات الإقليمية ولا سيما تلك التي تشهدها الساحة السورية، وثمة من يربط بين هذه التفجيرات وسياسة تركيا تجاه الأزمة السورية، خصوصا بعد إطلاق تركيا عملية “درع الفرات” العسكرية الرامية إلى تحقيق هدفين:

الأول: المشاركة في الحرب الهادفة إلى القضاء على تنظيم الدولة (داعش)، حيث تقف القوات التركية والحليفة لها على أبواب مدينة الباب ذات الأهمية الإستراتيجية للتنظيم.

والثاني: وضع نهاية للمشروع الكردي السوري من خلال ضرب إمكانية وصل الكانتوتات الكردية بعضها ببعض، لقناعة تركيا بأن ولادة مثل هذا الإقليم الكردي على حدودها الجنوبية سينعكس تصعيدا على قضيتها الكردية في الداخل، حيث اشتداد حدة المواجهة مع حزب العمال الكردستاني وجناحه السياسي حزب الشعوب الديمقراطي.

وانطلاقا من هذه المعادلة السياسية الأمنية المركبة، نشهد عقب كل تفجير توجيه الاتهام إلى التنظيميْن (داعش وحزب العمال الكردستاني)، رغم اختلافهما في الأهداف والبرامج والأيديولوجيا.

وإذا كان حزب العمال الكردستاني نادرا ما يعلن مسؤوليته عن هذه التفجيرات بل وأحيانا يدينها، فإن تنظيم داعش بدأ في الفترة الأخيرة يتبنى هذه المسؤولية، لا سيما بعد إعلانه الحرب على تركيا بسبب انخراطها في الحرب عليه. كذلك لا يتوانى تنظيم صقور حرية كردستان في إعلان مسؤوليته عن بعض هذه التفجيرات.

ولعل هذا التبني يعقد الأمر أكثر نظرا لطبيعة هذا التنظيم الغامض وحجم الشكوك في قدرته على تنفيذ مثل هذه التفجيرات المحكمة التدبير، والتي غالبا ما تحصل في قلب المدن الكبرى وتستهدف مقار الجيش والمؤسسات الأمنية والرموز السياحية، وتحتاج لخبرة كبيرة وإمكانات نوعية وكوادر مدربة ومعلومات دقيقة عن الجهة المستهدفة، لا يُعتقد توفرها لدى هذا التنظيم.

بعيدا عن داعش وحزب العمال الكردستاني، تتوجه الأنظار أيضا إلى حركة الخدمة بزعامة فتح الله غولن المتهم بالوقوف وراء الانقلاب  العسكري الفاشل، حيث ثمة قناعة عميقة لدى الحكومة التركية بأن الحركة ما زال لديها أنصار كثر داخل المؤسستين الأمنية والعسكرية، وأن هؤلاء يعملون بشكل سري ودقيق لضرب بنية الحكم، وما هذه التفجيرات إلا وسيلة لتحقيق مبتغاهم بعد أن فشل الانقلاب العسكري.

وعند الحديث عن غولن تتوجه الأنظار إلى الخارج لا لأن غولن يقيم في بنسلفانيا بالولايات المتحدة، بل لوجود قناعة بأن أردوغان وضع السياسة التركية في الموقع المضاد للإستراتيجية الأميركية، بعد أن كانت تابعة لها في إطار عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي طوال العقود  الماضية.

وينظر إلى ذهاب أردوغان نحو موسكو -على وقع تداعيات الأزمة السورية- باعتباره تجاوزا منه للدور الذي رسمه الغرب لتركيا في منظومة العلاقات الدولية، ولا سيما في ظل الرفض التركي المطلق للدعم الأميركي المقدم لوحدات حماية الشعب الكردية بسوريا، في دلالة على أن الغرب لا يكترث بتركيا وهو مستعد للتضحية بمصالحها على مذبح مصالحه وسياساته.وعليه فإن جملة الرسائل السياسية والأمنية تتقاطع مع بعضها، وتشي بأن الهدف منها هو ضرب حكم حزب العدالة والتنمية، وتحميل أردوغان المسؤولية عنها على خلفية خياراته السياسية.

من يقف وراء التفجيرات؟


المعروف عن تنظيم صقور حرية كردستان أنه تنظيم سري، وتقول أكثر الروايات شهرة عنه إنه انشق عن حزب العمال الكردستاني عقب اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان عام 19999.

ظهر التنظيم إلى العلن عام 2004، وهو يتكون من خلايا سرية نائمة، ومعظم عناصره من الشباب وخاصة طلاب الجامعات، وهؤلاء انشقوا عن العمال الكردستاني لأنهم يعتقدون أن سياسته باتت مهادِنة للدولة التركية ولم تعد تناسب حجم العنف الذي تمارسه هذه الدولة ضد الكرد.

والظاهرة اللافتة في هذا التنظيم هي أن قياداته غير معروفة إذ لم يظهر إلى الاعلام أي شخص يتحدث باسمه، وإذا ما صحت رواية تورطه في هذه التفجيرات فإن المنطق لا يستقيم مع توجيه الاتهامات لحزب العمال الكردستاني الذي لا يتوانى عن القيام بعمليات ضد الجيش التركي، وفي الوقت نفسه يؤكد أنه لا ينفذ التفجيرات في قلب المدن.

لكن رواية الكردستاني لا تحظى بثقة الحكومة التركية التي تؤكد أن تنظيم الصقور هو عبارة عن جناح عسكري سري تابع له، وأن قضية الانشقاق عبارة عن توزيع للأدوار والمهام في إطار الحرب ضد الدولة التركية، بل تذهب أبعد من ذلك فتقول إن هذه التفجيرات تجري بأوامر خارجية في إشارة إلى إيران والنظام السوري ودول  غربية.

وإذا صحت الرواية التركية هذه، فإن ثمة أسئلة كثيرة عن مدى انتشار صقور حرية كردستان في المدن التركية، وعن قدراته اللوجستية والأمنية، بل واحتمال اختراقه للأجهزة الأمنية التركية ما دامت التفجيرات تجري في أماكن أمنية حساسة.

وفي المقابل، ثمة اعتقاد في العديد من الأوساط الكردية والتركية بأن هذه التفجيرات غير بعيدة عن الصراعات الجارية في قلب المؤسسة العسكرية والأمنية التركية، وأن قضية “الدولة السرية” أو “دولة الظل” التي يتحدث عنها أردوغان هي حقيقة قائمة في صلب بنيان النظام السياسي للبلاد.

وهؤلاء يرون أن هذه التفجيرات تعكس هذا الصراع، حيث ثمة جهات داخل المؤسسة العسكرية والأمنية ترفض سياسات أردوغان الداخلية، والتي تنحو منحى الأسلمة التدريجية وتغيير هوية الدولة والمجتمع، للتخلص من إرث أتاتورك وتطلعا إلى تركيا منسجمة مع هويتها  الإسلامية، وما يترتب على ذلك من خيارات سياسية داخلية وخارجية.

الطرف الرابع الذي تتوجه إليه الأنظار هو تنظيم داعش، فالتنظيم مع تلقيه ضربات في العراق وسوريا بات يحس بوطأة تأثير انخراط تركيا في  الحرب عليه، ولا سيما مع محاولة قطع شريان الإمداد الخارجي عنه بعد أن استفاد من الحدود السورية/التركية كمعبر حيوي، سواء للتواصل مع الخارج أو لاستقدام المقاتلين الأجانب إلى ميادين القتال والتدريب.

ولعل التنظيم يرى أن التحولات الجارية في السياسة التركية تجاه الأزمة السورية والتقارب مع موسكو وطهران مبرر لاستهداف أراضيها، حيث  توحي دقة التفجيرات بأنه هو الذي يقف وراءها.

في التداعيات والمواجهة
من حادثة اغتيال السفير الروسي في أنقرة -ومن قبله تفجيرات أنقرة- وصولا إلى التفجير الإرهابي الذي استهدف ناديا ليليا في إسطنبول، فإنالخاسر الأكبر من هذه التفجيرات، هو تركيا الاقتصاد والمجتمع والاستقرار والتعايش السلمي بين الكرد والترك

ولعل هذا ما دفع أردوغان إلى القول مرارا إن الهدف من التفجيرات هو زعزعة استقرار تركيا وضرب وحدتها، رابطا إياها بالتطورات الإقليمية والدولية، ولعله يلمح -من وراء هذا الربط- إلى تورط أطراف خارجية لديها خلافات مع تركيا وسياستها الخارجية ومواقفها من الأزمتين السورية والعراقية

وعند الحديث عن الخارج لا بد من الإشارة إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي تلك التحذيرات المتتالية من الدول الغربية -ولا سيما الولايات المتحدة- بحصول مثل هذه التفجيرات في المدن التركية، إلى درجة أن هذه التحذيرات تشي بعلم هذه الدول المسبق بموعد هذه التفجيرات.

ويثير ذلك أسئلة كثيرة عن مدى التنسيق مع تركيا لمنع حصول التفجيرات، والإجراءات الأمنية التي تتخذها السلطات التركية ومدى فعاليتها في تجنب وقوعها، واللافت في كل ما سبق هو أن المواقف الغربية تأخذ شكل الإدانة فقط، وهو ما يعمق الشكوك التركية في دور السفارات الغربية، خاصة في ظل إحساس تركيا بأنها باتت مستهدفة كدولة ونظام.

ولعل مجمل ما سبق يترجِم على أرض الواقع سياسة تركية جديدة ستأخذ في الداخل المزيد من التشدد الأمني، وتصعيد الحرب على المنظمات المتورطة في التفجيرات الإرهابية.

وأما في الخارج فستتجه نحو الانفكاك عن الغرب والانفتاح على روسيا والصين، وربما إيران والعراق لاحقا على شكل تجرع لكأس السم، تحسبا لما تعتقده من مخططات غربية تهدف إلى تفكيكها، عبر نشر الفوضى وضرب استقرارها الداخلي خاصة بعد فشل الانقلاب العسكري.

وثمة من يعتقد أن نشر مثل هذه الفوضى في البلاد بات المدخل الوحيد لتحرك الجيش من جديد أملا في عودته إلى سدة المشهد السياسي، ولقطع الطريق أمام الانتقال إلى النظام الرئاسي بعد أن انطلق قطاره عمليا في البرلمان التركي.

عن الجزيرة نت

 

 

التعليقات مغلقة.