لسان العرب الطويل – شرف الدين ماجدولين

47
_175
شرف الدين ماجدولين

أول ما يتبادر إلى الذهن في أجواء العدوان الإسرائيلي على غزة، هو ذلك الشعار الأثير لدى الجماهير العربية، الذي يقول: “بالروح، بالدم، نفديك يا فلسطين”؛ وبطبيعة الحال، لا يدل المنطوق هنا على إرادة حقيقية، فالمدلول يفارق الدال، الذي يرفع في التظاهرات، مقرونا بالهيجان العصابي، والقبضات الملوّحة، والمطالبة بالسلاح وفتح الحدود للجهاد، يبقى شعارا حماسيا في النهاية، لكنه حين يترجم إلى لغة أخرى يصوّرنا قوما غارقين في البلاغة، والشقشقة اللغوية، المنطوية على فراغ. فأنت عزيزي القارئ لا يمكن أن تعثر على شعار مماثل مكتوبا بالفرنسية أو الأنكليزية، قد تعثر على عبارات من قبيل: “أوقفوا قتل الأطفال”، أو”إسرائيل دولة مجرمة”… أو غيرها من العبارات ذات المعنى الواضح والعقلاني، التي تندّد بالعدوان بصرامة، وتطالب بإيقافه.

يجرنا هذا التزيّد اللفظي، إلى مقاربة علّة جوهرية في خطابنا العربي المعاصر، وهي ما يمكن أن نسميه “سوء استخدام اللغة”، الذي ينتج أوهاما وأسقاما لا حصر لهما، قد تبدأ بالميوعة الفكرية، ولا تنتهي بإهدار الوقت والجهد والفرص. ففي ندواتنا الفكرية أول ما يبدأ الصراع على حجم الوقت المخصص للمداخلات، الكل يريد أن يتحدث بالطول والعرض، وفي نقاشنا السياسي يهيمن من تكون له القدرة على الارتجال واستحضار الأمثال والطرف والأشعار والآيات والأحاديث النبوية، والهيمنة على أكبر حصة من الوقت.

لهذا لم يكن غريبا أن ننتج على مرّ التاريخ حكاما مستبدين، فالمستبد شخص مهووس باللغة، هو المفتقر للمنطق، والعاجز عن الإقناع بالأفعال، والأحكام، والسلط الممنوحة له. يبقى ملجؤه الطبيعي إلى “لسان العرب الطويل”، المفعم بالتراكيب والمفردات المتناقضة، والحجاج الشكلي، ولذلك اقترن الاستبداد العربي على الدوام بالمخاتلة، والكذب، أي بـ”سوء استخدام اللغة”، وتحويل وظيفتها الإقناعية إلى وظيفة إيهامية خداعية.

أستحضر في هذا السياق فيلم “خطاب الملك” لتوم هوبر، الذي يصوّر مأزق جورج السادس المصاب بالحبسة الكلامية، حين نصّب ملكا، بدلا من شقيقه الذي تخلى عن العرش، كانت المرحلة تقتضي التواصل مع الشعب، والبلاد على عتبة الحرب العالمية الثانية، لكن “إعاقته” لم تحل دون إنجاز الوظيفة التواصلية للغة، إذ لم يكن مطلوبا من الملك أن يأسر الناس بسحر البيان، كان المطلوب هو “الصدق”، من خلال التعبير الموجز الذي حتى إن تخللته تقطعات فإنه يبدو إنسانيا. تتخايل إلى ذهني صورة الملك المتلبك جنبا إلى جنب مع عشرات الصور لحكام وزعماء أحزاب وحالمين بالخلافة ودعاة عرب، وكيف تسكنهم اللغة وشطحات الحديث الطويل، فأتفهم مضمون تلك الاستعاذة التي طالما استثارتني في مطالع بعض رسائل الجاحظ حيث يقول: “اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول”.

 

التعليقات مغلقة.