معبد الرسولة

32
14694725_1428841743797334_385276601_n
طه خليل

طه خليل

من سنين بعيدة تمد الآشورية رأسها لتذكرك بحب تعلمته على يدك، يومها كنت صغيرا، وكانت صغيرة، وتتذكر معها ما قاله مجنون ليلى:

تعَلَّقتُ لَيْلَى وهْيَ غِرٌّ صَغِيرَةٌ        ولم يَبْدُ لِلأترابِ من ثَدْيها حَجْم

صَغِيرَيْنِ نَرْعَى البَهْمَ يا لَيْتَ أنَّنَا     إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم

كان الحب يومها طريا ونقيا كحبة عنب تسقط في مياه الخابور، وكان عليك أن تحمل دفترا صغيرا تدون فيه يومك كله، منذ الصباح وما أعددته للفطور حتى تطفئ ضوءك لتنام، وكنت في الصباح التالي تحمل الدفتر مثقلا ببوحك لتمده نحو يد صغيرة، فتخفيه في حضنها، وتنتظر العودة إلى البيت لتقرأ ما كتبته لها، وترد عليك بالطريقة عينها، فامتلأت زوايا غرفتك بالدفاتر الصغيرة، دفاتر كانت تنبض كقلوب حقيقة، دفاتر كانت تناديك في الوحشة المديدة لتراجع ذلك البوح الأليم، حتى خرجت الدفاتر يوما و وصلت عتبة دار الآشورية، والتم عليك تلامذة المسيح وحوارييه، وأقنعوك مكرها: ” أنت مسلم، وكردي، ولا يجوز لك الإقتراب من معابدنا.” وانهدت قلاع العنب في روحك يومها وبكيت طويلا.

ثم اخترت ما مر صدفة، وما هندسه لك الآخرون، وما تلاه عليك حكيم زمن بائس، وروضوك وكنت مهرا جامحا، تضرب حجارة التاريخ بحافرك فتهيل على التاريخ وعلى المؤرخين تراب الذل، والحيرة واللاقرار.

لقد مرّ ما يقرب من الثلاثة عقود على يومك ذاك، ثلاثة عقود وأنت تحاول ترميم قلاعك، تحمل حجارة التاريح حجرة إثر حجرة، تنسقها، ترصفها، وتنظر إلى هندسة البناء فتراه مائلا، وقبل أن تعدله يسقط عليك فيدمي أطرافك ويوجع روحك، ثلاثة عقود وأنت تحاول  الترميم وإعادة البناء، فيذهب تعبك سدى، وتتكسر محاولاتك على حجارة اليأس الصلبة ، وكأنك تقتنع فتنتقم من نفسك، وتبحث لها عن حريق، و وجدته سريعا، فخرجت إليه راكضا، حتى وصلت بلاد الجرمان، فأدمت حواف الألب رجليك الحافيتين وقلبك الهزيل، خرجت وفي ذهنك أنك قد أحرقت السفن وراءك، فلحقت بك المراكب والسفن إلى تلك البحيرات، ذهبت إلى المحيط الأتلنتي واغتسلت بمائه كفارة للذنوب التي لم ترتكبها، عاشرت من الملل والنحل والأقوام حتى نبت الريش الخفي في جناحيك، وامتطيت الحديد لتصل ” بربادوس ” وجزر الكاريبي، تعلمت رقصة ” الريغي ” ممسكا بضفائر ” بوب مارلي ” وأنت منتش بماريغوانا جامايكية كثيرا ما كانت تعيدك لنبيذ الآشوريين حنينا مطفيا، وشوقا ذابلا، وعاشرت من النساء حتى تراكمت الظلال حولك، ولكن الحنين كان يشدك لمربط التاريخ  الأول، والخطأ الأول، والقهر الأول، والمنبع الأول، والأرض الأولى.

 وخرجت لتترك وراءك أولادا يلهجون بلغات عديدة، وخرجت لتختار ديانتك وتصحح قلاع الذل والحيرة، و وجدت رسولتك بعد حول، الرسولة التي قلت لها: ” فكي قيودتي يا رسولتي لقد تعبت ” ولأنها رسولة الماء والبراري، رسولة السلماس وضوء روج آفا عرفت كيف تسحبك شعرة من عجين الوحشة، ألقت عليك ببردتها، وألقت عليك بنفسها، ونفسها، فاخضر كل اليابس الذي فيك، وأعادتك مهرا كميتا إلى حديقة الله.

رسولتك لا تريد الكثير، تريد معبدا دائريا لا باب فيه، تدخله معك لتبدد وحشتك و وحشتها، وتبقى هناك تعد لك طقوسا التاريخ الطعين، وحيرة الكرد و وحشتهم الأبدية، رسولتك مهرتك الوحيدة والاخيرة، فـ ” دير بالك عليها وعليك كثيرا”.

نُشرت هذه المقالة في العدد (52) من صحيفة “Buyerpress”

2016/10/15

 

التعليقات مغلقة.