وحشة….محمود درويش الذي نسي أن يموت

81

محمود-درويش-الذي-نسي-ان-يموتزاوية يكتبها طه خليل 

سألت الشاعر محمود درويش قبل رحيله بعدة سنوات عن دواوينه وأهميتها بالنسبة له، فكان جوابه: ” لو قيض لي أن أختار الآن من كل ما كتبت لما اخترت إلا بضعة دواوين”. كاد هذا الجواب أن يفوتني دون أن أتأمل في خلفياته، ولا أظن أن محمود درويش قد قال ذلك لمجرد الاستعراض، فمن يتابع مسيرة محمود درويش الشعرية، سيجد أنه قد اتخذ لنفسه مسارا مختلفا تماما في الشعر، وفي ما طرحه من مواضيع، وتحديدا منذ ديوانه أو قصيدته المطولة التي سماها الجدارية، والتي كتبها بعد أن تعرض لذبحة صدرية اضطر بسببها لإجراء عملية جراحية لقلبه.

في الجدارية نجد الشاعر محمود درويش كما لم يكن يوما وطيلة مسيرته الشعرية، التي جعلته ليكون شاعر الثورة الفلسطينية بامتياز، شاعر الثورة بالمفهوم الخطابي الكلاسيكي الذي تعوّدنا عليه منذ أيام الحماسة في الشعر الجاهلي، وأكثر من ذلك فقد كتب محمود درويش قصائد يحذر “العدو” من جوعه ومن غضبه، لأنه” إذا ما جاع، سيأكل لحم مغتصبه” الآن وأنا أقرأ تلك القصيدة، أشعر بالتقزز من مسألة أكل لحم العدو، حيث يرتسم أمام عيني صورة دراكولا، أو مجسّم غريب في أفلام الرعب وهو يأكل لحوم البشر، وبالطبع لا أعتقد، ولم أعتقد أن شاعرا برهافة محمود درويش لديه القدرة أن يمثل بجثة عصفور، أو يلتهمه على الطريقة التي وردت في قصيدته تلك .

فماذا تغير في محمود درويش، وماذا تغيّر في الكون، فمحمود درويش كان لايزال يرى شعبه مشردا، ولا يزال عدوّه يمارس ما كان يمارسه من قبل، ولكنه راح بعد الجدارية يتعامل معه بطريقة أخرى ويخاطبه بلغة غير لغة” أكل اللحم” بل يقول للجندي الاسرائيلي الذي قتل طفلا من شعبه: لو لم تقتل هذا الطفل ولعله لو كبر لدرس في نفس الجامعة التي تدرس فيها ابنتك، ولعلهما أحبا بعضهما، ودغدغ الغرام قلبيهما، وتزوجا، ولكنك: قتلت عائلة كاملة، بطلقة واحدة.

باعتقادي أن توجيه مثل هذا الخطاب للقاتل يعد أكثر قساوة وتأثيرا مما لو قال له: سآكل لحمك، صحيح أن العنف يولد العنف “كما يقال” ولكنه ليس بالضرورة أن يكون العنف المضاد صحيحا، لاسيما إذا علمنا أننا نحن الطرف الأضعف في الحرب وفي تسيير دفّة العنف، وبالتالي لن يكون هناك حلّ لأية مشكلة في العالم من خلال العنف، فهي دائرة لا تنتهي وتنور لا يشبع من الضحايا، وكل مسائل العالم ومشاكله تم حلها في النهاية وجها لوجه ومن خلال المصافحات، والشدّ على الأيدي.

من هنا تبدّت لنا إنسانية محمود درويش من جهة، ومن جهة ثانية تظهر لنا حقيقة الكتابة عند هذا الشاعر، فمحمود درويش هو أحد القلائل ــ إن لم يكن الوحيد من بين الكتاب الفلسطينيين ــ الذي استطاع ان يكتب ويستمر حتى خارج الهمّ الفلسطيني المتعارف عليه أدبيا وهو من القلة الذين عرف حكمته، وعرف كيف يصوغها شعرا، سيظل خالدا مهما تغيرت الظروف: ” ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية / هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟ / قلت: بلى … ونسيت مثلك أن أموت.”

ما تغير فيه لم يكن بسبب خوفه من الموت، بل تقديسا للحياة، التي يدنسها الرعب والعنف، وربما احتجاجا على ثقافة الموت التي راحت تتسع حتى كادت أن تسخف الحياة.

ولا يزال الكثير من الشعراء الكرد يعتقدون أن شتم (العدو) في (شعرهم) سيبني دولة، فتراهم بنوا كردستان في القصائد و”دحروا” العدو، و” ألقنوه درسا” في التصدي والبطولة، في الوقت الذي تراه يختفي في جحور الوحشة وقد اختارها طواعية، ووحشتي لا تنفكّ أن تطاردني، فكلما أضاءت ” ضوء روجآفا ” عتمة في القلب هدّته رعود الصيف.

نشرت المقالة في العدد (47) من صحيفة Buyerpress تاريخ 15/ 7/ 2016

11165113_541958725977071_7059124043412540130_n1111

التعليقات مغلقة.