الرأي الآخر – طاهر حصاف

69
طاهر حصاف
طاهر حصاف

الرأي الآخر هو أحد المنعطفات العصرية التي لا يمكن عدم الوقوف عندها إذا ما أردنا للكلمة معنى وللمقال مقام, وقد غدا مصطلحا سياسيا ذا أبعاد فكرية وثقافية متعددة والعكس صحيح، أيضاً. مما حدا بالكثير من الأوساط والاتجاهات اتخاذه شعارا لا يغيب عن مجالسهم وخطبهم الخالدة حتى لو لم يؤمنوا به  ..إنّ العلوم بكافة اتجاهاته وبحوره كلما تطور كلما ازداد تعقيدا واحتاج إلى بحث واستكشاف أعمق وهكذا هلم.

إذا ما اعتبرنا العقل هو من خلق العلم,فإن هذا الأخير قد تطور إلى درجة غدا فيها بعكس هذه البديهية فيحاول خلق العقل الأسمى سواءً آليا عن طريق الكومبيوتر أو كيميائيا عن طريق  الجينيات. وكي لا نخرج عن إطار الموضوع, أعود إلى محور كتابتي وهو الرأي الآخر عند الإنسان هذا الكائن الاجتماعي في ظل كل هذه التطورات الحضارية, فنسأل أين الإنسان من الآخر…وبالتحديد من الرأي الآخر.. وكيف يستوعبه ويتعامل معه؟ وهل صحيح ما ندعيه بقبول الرأي الآخر كما هو..  وهل استطاع الإنسان الشرقي احتواء الأبعاد المعاينة والمعنونية لهذه الكلمة؟..                       في الحقيقة إن الاجابة على هذه الأسئلة ولو بشكل مختصر ومفيد,  تتطلب منا الكثير من الصراحة والصدق مع الذات..  وعلينا أن نسلم بكثير من الأمراض النفسية التي تدخل في تركيبة الفرد في المجتمع الشرقي وذلك لأسباب سياسيّة وتاريخيّة وجغرافيّة يصعب الدخول فيها ضمن هذا الحديث الضيق النطاق, فهذه المجتمعات المغلوبة على أمرها عانت -وما تزال- الكثير من الاضطهاد الفكري، العرقي، القومي والإنساني وبكل أبعاده مما جعل للفرد فيه تركيبة خاصة ليس سهلا فك عقدها ومكانها جملة واحدة.

لو ألقينا نظرة إلى ذاتنا بعين مجردة وليس وفقا لتصوراتنا وآرائنا الذاتية عن أنفسنا, لو قدرنا عن هذا الفصل بين الذات والذاتية لاتضح لنا الكثير من الأمور المخفية عنا, ولاكتشافنا في هذه الذات القلقة؛ نفسية تعاني الكثير من الأمراض, ونجد بعضها في الأساس ليس مرضا بقدر ما تكون صفة إنسانية, إلا أننا توغلنا وبالغنا فيها لدرجة تحولت معنا إلى مرض من حيث لا نعلم, وعلى سبيل المثال نرى بوضوح في نهاية أغلبية ندواتنا وحواراتنا العامة منها والخاصة. نقاشات حادة تحصل بين من يسمون أنفسهم قبل أن يسميهم الآخرون مثقفو الساحة الفكرية, نراهم عندما يبدون آرائهم أو ملاحظاتهم عن الموضوع المطروح كيف ينسون الموضوع الرئيس ويخرجون عن الإطار الموضوعي ليلقوا بخطبهم التي عفا عليها الزمن, وبيّن كل كلمة وكلمة تطرق مسامعنا كلمة (أنا).. (وأنا كذا).. (وأنا أقول).. الخ.  وكل تقاطيع وجوههم توحي بروح تحدّ لا مبرر له أو معنى, والحقيقة أن التحدي ليس بمرض إنّما هو صفة إنسانيّة ضرورية للحفاظ على التوازن الوجودي للفرد ولكن ضمن نطاق المعقول, وعندما تخرج من هذا المعقول تتحول إلى سلبية وبالتالي إلى مرض ستكون له نتيجة عكسية وسلبية. إن روح التحدي الفياض هذا في نفس الإنسان يؤدي إلى عدم تقبُّل الرأي الآخر فهو يتحدى الآخر بمناسبة وغير مناسبة فكيف يسمع أو يستوعب آراء الآخرين حتى لو كان ذلك الرأي يقوده نحو غايته أو هدفه.

ومرض آخر يتفشى في مجتمعنا بشكل كبير هو مرض (الانبهار الذاتي)  وينتشر بشكل خاص في الأوساط السياسية والثقافية, حيث نجد بعض هؤلاء المبهورين بأنفسهم إلى درجة الوسواس القهري. فالمثقف لا يعترف بمثقف آخر أو بعده  وكذلك الفنان والسياسي أيضا, ومع ذلك فان أغلبهم إنْ لم نقل جميعهم يؤكدون في حواراتهم وكتاباتهم على ضرورة فهم وتبادل الرأي مع الآخر وهذا يؤكد على مرض آخر؛ وهو الازدواجية في التفكير والسلوك مخبؤه خلف شعارات وادعاءات مزيفة, فكيف للإنسان يفهم الآخر وبحاجة إلى رأي هذا الآخر وهو على هذه الدرجة من الانبهار بالنفس والازدواجية.

فإذا بنا نراه ينقد وهو في الحقيقة يطعن ويتآمر على الآخر بشتى الوسائل ونراه يبني وهو في الحقيقة يصطاد في الماء العكر كي يصل غايته. إنّ منبع هذه الأمراض وغيرها يأتي من الخوف المتراكم داخله؛ بسبب الاضطهاد التاريخي الذي تعرض له المجتمع الشرقي بشكل عام والمجتمع الكردي بشكل خاص على الصعيدين الداخلي والخارجي. فمن الخارج يتمثل في الاستعمار ومن الداخل المتمثل بسلطة  (المستعمر) في إطار نفوذه, هذه العوامل وعوامل أخرى كثيرة ساعدت في ايجاد هذه التركيبة السلبية للفرد الشرقي.

إنّ الكتابة عن هذا الموضوع تتطلب دراسات وبحوث أكثر شمولية ولا يمكن حصر أبعادها ضمن نطاق محدد, والغاية من الكتابة هو إلقاء ضوء بسيط ولفت نظر الآخرين إليه. قد  سبقني آخرون فيها, ولكني لم أجد ضررا في إيصال وجهة نظري هذه عسى ولعل تفيد البعض منا. و كون الثقافة السائدة في مجتمعنا هي الثقافة الشفوية فإنّ الكثير يعشقون الكلام وينسون العمل به ولا يعطون حقه في الممارسة الواقعية, فقلما نجد في الوسط الثقافي مثقفا لا يتحدث كثيرا, ولا أعتقد إن المثقف كي يثبت نفسه أو يشارك في بناء مشروع ثقافي لابد أن يبدي رأيه في كل صغيرة وكبيرة لأنه بطبيعة الحال سواء أراد الإنسان أم لم يرد،  فكثرة الكلام وإبداء الرأي إنْ تطلب الامر أو لم يتطلب يجعل من المثقف مجرد خطيب لاهمّ له سوى الجهر بصوته وتكرار السائد والمطروق كي يشبع النرجسية في داخلة.   وكذلك نشعر أن المثقف الشرقي عندما يبدي رأيا في موضوعٍ ما لا يريد جدالا أو تعبيرا مخالفا له وكأنّه حكم من الواجب تنفيذه.  وهذه النمطية والمحمودية في الفكر جعلت المثقفين وأصحاب النفوذ والسلطة يتعاملون فيما بينهم بحساسية غريبة هذا حتى لو كانوا عاملين في نفس الاتجاه السياسي أو الفكري, وهذا يؤثر كثيرا على العملية الابداعية في هذا المجال, فقلما نجد أصحاب الكفاءات الحقيقية قد حصلوا على حقهم في تلك الأوساط .

 

نشر هذا المقال في العدد “46” من صحيفة Buyerpress تاريخ 1/7/2016

 

11165113_541958725977071_7059124043412540130_n116

التعليقات مغلقة.