الفدرالية كآخر سبل التعايش سوريّاً

41
azad
آزاد نبي

 في “الأزمة الوطنية” السورية الراهنة،وعلى ضوئها قدنشهد تحالفات سياسية جديدة؛ بمعنى أن المحاصصة السياسية على “سوريا المُستقبل”،طبقاً للتوزع الإثني والمذهبي والمناطقي، قد يكون ذلك شرطاً لتعايش المكونات الأهلية والسياسية، ضمن الحدود الكيانية السورية الراهنة. بحيث يُعاد تركيب “شكل الدولة” ونظامها السياسي،على أُسس جديدة،تكتسب فيها “المكونات الأهلية” سلطات سياسية واقتصادية وإدارية واسعة،تدير بها شؤونها الداخلية.

يندرج هذا التصور في سياق النزاعات الأهلية والمجتمعية المركبة، التي أودت إلى تفكك الكيانات السياسية، ذات التعدد القومي والديني والقبلي المحكومة مركزياً. حيث تخلصت بعضها من “الاتحاد القسري” بين المكونات غير المُتطابقة، وصاغت نمط حُكمها من جديد، كأسس للعيش المشترك. فقد كانت بحاجة لهدم الهيمنة الكولونيالية والفاشية من جانب الشعوب التي تطمح إلى الاستقلال الجزئي عن النظم الكونية الشمولية. على ضوء ذلك يعد الحل الفدرالي في سوريا هنا بمثابة المحاولة الأخيرة للشراكة الفعلية تحت سقف دولة واحدة قبل القطيعة الكلّية,  نظراً أن بناء هذا الشكل للدولة يخضع لمعيار التوافق الذي يؤسس لتعايش سلمي مديد يمهد في مراحل لاحقة, إما لتمتين وحدة سياسية متماسكة طبقا لمَتحققه من إنصاف وتماثل,  أو لتجزئتها فيما لو أخفق في اتحاد يضمن حرية الجميع ويحصن حقهم ويؤسس لإدارة حقيقية مشتركة. هذا النموذج القائم أساساً على منح سلطات واسعة لجميع الجماعات التي تتكون منها المجتمع السياسي هو يرتكز بالضرورة على مبدأ ضمان حرية واحدة منها هي حرية الأخرى.

الأمر ذاته ينطبق على الحالة السورية,  إثر تقويض سيطرة السلطة وتآكل قوتها وبروز توازنات سياسية وأهلية واضحة, لاسيما بعد تحول الانتفاضة الشعبية إلى حربٍ دامية حاملة طابعا أهليا في بعض أوجهها, ثبت بوضوح فشل الدولة المركزية في الإدارة, ويتضح أن لا مناص من الحل الفدرالي.  وهو إذ يصير يصبو ليكون النموذج الأوحد أمام عدم واقعية التقسيم,  الذي سيفرض بالضرورة تغييرات كبيرة على عموم المجال الجيوسياسي, ويؤثر على شكل خرائط دول الجوار.

يتسم الشكل الفدرالي للدولة على أسس هامة وجوهرية تلازم بعضها, أي خلل فيها ينسف الحياة السياسية والديمقراطية العامة,  حيث تعزز حق الجماعات الأهلية في إدارة نفسها وتعترف بهويتها في إطار الدستور، تحدّ من طغيان السلطة السياسية، تكرس احترام سيادة الدولة, تنفي تطبيع الدولة بصبغة قومية أو دينية، وتؤسس لاستقرار سياسي وأهلي واقتصادي، إضافة أنها تمنح نوع من التوزيع العادل للثروة, تكفل الحرية الكاملة للأفراد وتحرص على نوع من التفوق لمركزية الإنسان فوق أي اعتبار آخر. والأهم أنها تفكك الاتحاد القسري وتبني علاقة تشاركية جديدة على نحو عادل ومتساو,  كما هو حال الفدرالية السويسرية والأمريكية, على اختلاف أنماطها,  فلا يسود الاستقرار الدائم على الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية إلا عند تمتع الدولة باتحاد شعبها, وتجاوز الغبن والاضطهاد التاريخي بحق الفئات الأهلية المتمايزة في الهوية,  بخلاف الفدراليات المشوّهة التي تدار من قبل حكومات طائفية لاتقل عن النظم الشمولية فاشيةً, كالعراق, والسودان التي آلت إلى التفكك.

إن من أهم أسباب تقدّم وازدهار النماذج الفدرالية العابرة للهويات التاريخية،هي أنها استفادت من التعدد الإثني والديني والقومي وخلقت نوع من التوازن الكمّي  والنوعيّ للمواطنين واحتوت اختلافاتهم وأنتجت ميثاق تفاهم وطني عام. بقولِ آخر, إن الدول الفسيفسائية كانت قادرة أكثر من غيرها في تقديم مجتمعات رصينة ومتطورة عندما أحسنت الاستفادة من عناصر الخليط النوعي,  فهذا النموذج الأرقى والألمع ماكان له أن يتمتع بهذا التعايش المجتمعي لولا أنه تخطى الحواجز المقدسة وعقبات السلطات المركزية, وانحاز إلى جانب خيارات الشعوب ومصائرها التي أسهمت بشكل موضوعي في بنائها.

وعلى الرغم من عدم تبلور موقف دولي موحد إزاء فدرلة البلاد سوى تسريبات طفيفة, إلا أن ثمة توجه عام غير معلن أن لاسبيل غيرها لإعادة التحام المكونات السورية, قياساً إلى مستوى العنف وثقل التدخلات الإقليمية والدولية, وربماتفتح الأبواب أمام مصالحة وطنية شعبية, وتضمن تسوية سياسية حقيقية, وتنقذالبلاد من شبح التفكك الكلي. الشيء الوحيد الذي تتكابر السلطة والمعارضة السوريتين على إقراره معاً هو أن الدولة ممزقة واقعياً بين مختلف القوى على الأرض, ولا يمكن لها أن تنتزع سيادتها إن لم تنل القوة الكافية لحمايتها وهو مشروط بالدعم والشرعية الشعبية, فلا السلطة مخولة بامتلاك القوة ولا المعارضة, وكلاهما لا تستطيعان وضع حد لسفك الدماء, لأن كلاهما تتعاطيان مع المشهد السياسي بمنطق الاستبداد.

من هنا, نرى أن المعارضة السورية رافضة للمشروع بشكل جذري وتعتذر حتى عن تناوله أو النقاش فيه كونه يمهد للتقسيم, على حد وصفها, كذلك ترفضها الحكومة السورية وبحدة أقل, وتشاطر المعارضة المخاوف ذاتها.  ومما لاريب فيه أن الطرفان لاترفضانه من قبيل أنه مشروع هادف لتفتيت المجتمع السوري وأرضه كما هو معلن أو من دواعي الحرص على انجاز دولة ديمقراطية لكل السوريين تمثل الحداثة السياسية, بقدر ماتسعيان إلى مركزية السلطة واحتكارها,  وبالتالي حرمان جماعات أخرى من تقاسمها. إذاً هي أوهام السلطة من قبل الجانبين وليست المصالحة الموضوعية. لكن هل بالإمكان التنبؤ بمثالب الحل الفدرالي دون الدخول إلى الحيثيات والتفاصيل ودون إحضارها إلى قيد التداولات الرسمية, التي تتعين على مستقبل البلاد في حال أخفقت القوى المجتمعة في محادثات السلام الجارية, وهل من بديل ديمقراطي آخر ينتشل البلاد من سكاكين التطرف ونيران الاحتراب غير الإنصاف الكّلي, وهل من سبيل لإنهاء النزاع الأهلي وتجنب البلاد من الانتقام والحروب القادمة سواها, والأهم هل المجتمع السوري قادر على العيش مجدداً في ظلّ الشكل القديم المفروض فوقياً وقسرياً؟ بطبيعة الحال, العودة إلى سابق عهد الانتفاضة السورية أشبه بالمستحيل وربما ثمة جهات كردية “حزب الاتحاد الديمقراطي” حسمت قرارها عندما أعلنت الفدرالية دون أن تكترث بوعيد النظام وتهديدات المعارضة, تجلى بصفة ملموسة ومباشرة باستغلال ضعفهما, وأي تكن طبيعة هذه الخطوة وبصرف الأنظار عن محاسنها ومثالبها في هذا التوقيت, فهي انتهت إلى فرض شكل جديد للدولة السورية ربما تتحول إلى مسألة أمر واقع, يضطر المتحاربون والقوى السياسية حينئذٍ إلى قبولها,  عندما يدركوا أن ما من سبيل يحفظ البلاد من المستنقع المجهول ويحافظ على حياة ما تبقى من الناس غيرها, في هذه الحالة تعد الفدرالية سورياً هو الخيار الأخير للتعايش والمصالحة, هو إذاً يركز بالضبط على مبدأ إنصاف الحق التاريخي المغيّب.

يمكننا أن نستخلص القول إن الشكل الفدرالي ومع ما تحمله من عوامل القوة لنهوض المجتمعات وتخطي النزاعات الأهلية هو جوهر الحداثة السياسية الديمقراطية, وهو الشرط الوحيد للتعايش الأهلي السوري وإعادة ترميم حدود بلاده وتجنبه ربما صراع مستقبلي مكلف.

 

نٌشر هذا المقال في العدد (43) من صحيفة “Buyerpress”

2016/5/15

مقالات1

 

التعليقات مغلقة.