كسار الزبادي يجوب السماء.

62

11421637_1088370524511126_1683966123_nمقاربة لهايكو سامر زكريا

 

رغم ما في الخريف من نكاية بشعار “الربيع” العربي الذابل ونقيضه، فإننا نتحسس احساسا مكثفا بالطبيعة الى حد الالتفات الى كائنات متناهية الصغر ندوسها بكثير من الكبرياء والجبروت دون ان نتعلم من هشاشتها الحكمة والجمال كما الياسمين :

خَريفُ دِمَشق

عَبْرَ الأَثير

صَدى اضْطِرابِ الياسَمين

أو في :

النَشرَةُ الجَوّيَّة

بِلادٌ مُمطِرَة

وقَلبٌ غائمٌ جُزئيّاً

النص الاول خريفي والثاني شتائي لكنهما متداخلان دلاليا تداخل اضطراب الياسمين في البلاد الممطرة . . بهذا يكون الطفل الذي نما في في بلاد عربية منتهبة ووطن ملتهب قد اقتبس من الهايكو اسمه الاصلي و جذوته : ” طفل الرماد” الذي لم تجتح قلبه سحب الاحباط لا يزال محتفظا بمساحة مشمسة تزوده بالأمل الموروث عن الام :

على الحاجز العسكريّ

فجأةً في السيّارةِ المجاورة

وَجهُ أُمّي الباسِم

الشاعر يحكي بأسلوب يتوخى البساطة دون اسفاف الشارع او سقوط في نثرية العوام ،بسرد يقوم على “الاسم” و “النعت” مستغنيا عن الفعل الدال على الحدث والزمن ..لكنه يستحضر كل هاته العناصر بالإيحاء الى مفارقات دالة : (الحاجز- العسكري- السيارة) في مقابل (وجه –امي-الباسم ) ليبرز الصراع بين الحقلين الذي ينتهي بانتصار إرادة الحياة وقيم السعادة والحرية ..انه مشهد اشبه باللقطة السينمائية التي تبقى عالقة بالذاكرة بعد ان ننسى الفيلم برمته…

لكن لا يتعلق الامر بفيلم بل بالحياة والموقف الوجودي من تناقضاتها كما في النموذج التالي :

فجأَة

وسَطَ العاصمَة

صَيحَةُ دِيك

يتأسس الهايكو في تجربة ابي سمرة على الايجاز الذي قد تبوح به لفظة واحدة مثل “اضطراب”او “كسار الزبادي” او جملة “قلب غائم نسبيا” او شبهها “صيحة ديك” قفلة منزاحة عن المتوقع للإدهاش . كناية تتيح لنا جواز فهم النص بالمعنى القريب الاول ،أو تأويلها بالمعنى البعيد ،بافتراض المرجعية الثقافية والرؤية السياسية التي تتناص مع قصيدة الديك لنزار قباني.هي رؤية مرحة مفعمة بالسخرية السوداء، لا يتوقف عندها الهايكيست بل يفتح الهايكو على تخوم اخرى دون استنساخها ، كالومضة او الشذرة الفلسفية ، فيعري الصورة من الحشو اللغوي والمباشرة الفجة ليمنحها ألق اللحظة واشعاعها في الذات ، مثلا:

شاطئٌ رَمليّ

كلُّ ما أَبنيه

يهدِمُهُ المَاء

المشهدية البصرية حاضرة ايضا مغتنية بالمقابلات الدالة . فالحقل الدلالي(شاطئ رملي-أبني) يقابله حقل(الماء – يهدم) لكنهما مؤطرين بمشهد وصفي -حركي حي يموج في الذات والفكر، من خلال تقابل الحركة الافقية المتدنية ل “ماء” و الحركة العمودية المتسامية للبناء بالرمل ،والتي قد ترمز الى الرغبة في تخلص “الانا” من الضرر الذي تسببه الوقائع الارضية، يؤدي التقاطع بين الحركتين الى صراع ينتج عنه انتصار قيم الهدم والدمار. مرة اخرى يحضر الجدل الفلسفي ،معتقل في زمن دائري غير متطورلاحداث طفرة القطيعة ، لأنه مبني على تكرار الحدث الى ما لانهاية ، مما يوجه التلقي الى افتراض اسطورة صخرة سيزيف والإحساس بالعبث . ومن التحف الشعرية التي تتميز بتمثل جوهر الهايكو -ان كان له جوهر- ، هذه التحفة الفنية :

شِتاء

وَجْهي

قمَرُ المَساء

على خلاف النص السابق ، هنا الاسلوب بسيط سهل ممتنع وايجاز في الدوال والتراكيب ،و صورة مشهدية ثابتة في الظاهر، وواضحة بلغة عادية دقيقة لكنها مفتوحة على تعدد القراءات : يمكن ان تكون العلاقة بين القمر ووجه المتكلم علاقة تشبيه – تشبيه بليغ بحذف وجه الشبه والأداة- (وجهي كقمر المساء من حيث….) ،او تشبيه مقلوب (مثل وجهي، قمر المساء) ، كما قد تؤول بعلاقة اتحاد ومطابقة بينهما (وجهي هو قمر المساء ) ، كثافة المعنى تجعلك تتساءل : هل يتعلق الامر بإحساس مفاجئ بقمر يدحرجه المساء نحو نهاية لأمر يهمه ، بعث في الشاعر حدس العمر الفاني..لمرض او كبر او قلق عابر .؟.وهل انقشع قمرالشتاء فجأة من خلال السحب الماطرة ليعكس قمر الداخل الملون بالسكينة والانشراح المؤقت ؟ هل تشير كلمتا “المساء – شتاء” الى دلالة البحث عن دفء ما ؟ انيس ما ؟ مما يوجه الاحساس اكثر نحو الشعور بالشحوب والعزلة والاغتراب ام هي عزلة مرغوب فيها -عزلة متأمل للطبيعة وما تثيره من احلام لذيذة ، او النص تعبير عن احساسات مركبة تؤالف بين الطمأنينة والسكينة ،وبين التوتر اللحظي والقلق مجهول السبب ،بين اشتعال الذاكرة والتماع الامل و الحلم ..الخ وبما ان الهايكو يتأسس على الحذف المبرر بالسياق والمقام ،فان هذا النص ينبني على غياب الفعل – الدال على الزمن، الا انه مستشف من الفاظ ( المساء والشتاء و القمر- القمر معجميا يدل على التناقص – )..وكذا غياب الحال او الصفة ..والاقتصار على الاسم فقط وفي هذا اورد قول “كيوشي تاكاهاما “( هنالك عدد من قصائد الهايكو اليابانية يخلو من أي فعل او صفة او حال ويمكن ان يدعى شعر الاسم)*(2) الذي هو اصل الوضع ، ففي البدايات لم يكن ممكنا ان يعيش الانسان دون قرين : ظلا كان او جنيا او شجرا او مرآة أو قمرا ..لاعتقاده ان روحه موجودة خارج جسده ، لكن في وحدة وجود مطلقة . هو نص يحدس الكون في بساطته الاولى وطفولته الانسانية ، بلغة عادية دقيقة بدقة جمالية لا منطقية ،لان كل قارئ سيراه عموديا ام افقيا ،أويكوره ،فيزيد او ينقص من كثافة الضوء ، بحسب احساسه الباطني ،وانطلاقا من زاوية نظره ، يمكنه الاصغاء الى موسيقى قمرالمساء الشتوى متأملا وجهه الخاص كما لو كان في حلم اليقظة اليس (القمر بامتياز هو كوكب ايقاعات الحياة -… -يرمز في آن للموت والخصب ،للنور وللظلمة بواسطة وجهه كبدر كامل) (3) ودونما اغراق في رمزية القمر والوجه والديك وكسار الزبادي ،أخلص الى ان الهايكو لدى سامر زكريا حدس لحظة تتقاطع فيها اشراقات الجسد في بحر الوجود ونهر اللغة، ومحاورة لمنجزات شعرالهايكو عربيا وعالميا ،للإرتقاء بالإحساس من المادي المباشر الى فضاء الرمز والإيحاء ،وبالفكر من المطلق والثبات الى النسبية والصيرورة ،و بالجمال من الجاهز المالوف الى عالم الدهشة والسؤال ..

إحالات:

1 –2/واحدة بعد أخرى – دراسات في جماليات قصيدة الهايكو اليابانية .تاليف كينيث ياسودا ترجمة محمد الاسعد .مراجعة د.زبيدة علي اشكناني . ابداعات عالمية ع 316 فبراير 1999 الكويت

3 /الرموز في الفن -الاديان –الحياة.تاليف فيليب سلنج. ترجمة عبد الهادي عباس.دار دمشق .ط اولى .1992.ص383

مقاربة : جمال عبد الناصر الفزازي- المغرب

نشر في صحيفة Bûyerpress في العدد 21 بتاريخ 2015/6/15

التعليقات مغلقة.