الإنسان والعدمية في الأدب المعاصر

40

يبرز فهرسكتاب «دروس التفكيك.. الإنسان والعدمية في الأدب المعاصر»، لمؤلفه الدكتور حسام فتحي نايل، كنتاج فعلي لاشتغال الكاتب وانشغاله بالتفكيك الأدبي لثلاثية الروائي المصري إدوار الخرَّاط (رامة والتنين، الزمن الآخر، يقين العطش)، التي أدهشه فيها غاية الإدهاش، الوقْع التفكيكي الحاد الذي يتخللها، فشرع في اتخاذها نموذجاً عمل على درسه، حتى كان هذا الكتاب.
إذ إنَّ المؤلِّف لم يقرأ حتى الآن أعمالاً أدبية أخْلص للتفكيك من أعمال الخرّاط، بل لعل الخرّاط في أدبه أخْلص للتفكيك من إخلاص جاك دريدا له. ثمَّ يصف أدب الخرَّاط بأنَّه من نوع الأفاعي التفكيكية الماحقة، فمنه كما يقول تعلَّم التفكيك حقَّ التعلم؛ وإنَّه ليمثِّل حقيقةً ساطعةً وإثباتاً جلياً ناصعاً لمقولة دريدا اللافتة التي مفادها أنَّنا نتعلَّم التفكيك من الأدب.
على أن ممارسة التفكيك والنص الذي نحن بصدده يتناقضان وأيّ إلزام شمولي، بل ويقومان بتقويضه. لا بدَّ من الإخلاص لأكثر من واحد على قدم المساواة. لا بدَّ من تنقلٍّ دائمٍ بين أطراف متعدِّدة. ألا تعلمنا الحياة ذلك؟ إنَّ التفكيك لا يعمل لحساب شيء خارجه.. إنَّه يعمل لحساب نفسه على الدوام. كما الوجود يعمل لحساب نفسه. أم ترانا نسينا هذه الحكمة الجليلة؟ نصٌّ مخلصٌ لنفسه وقارئٌ مخلصٌ لنفسه وإخلاصٌ مزدوج. لكنّ ما يُرتابُ فيه هو الغاية من هذا الإخلاص.
ينبني نص ثلاثية إدوار الخراط (رامة والتنين، الزمن الآخر، يقين العطش)، كما يحلِّله المؤلِّف، وفق تجربة عشق بين ميخائيل ورامة. وعبر هذه التجربة تتوافَّر طاقة النص بكاملها وتلتفُّ وتدور حول سؤال المعنى، ومن ثمَّ وبالضرورة حول سؤال الحضور، وأخيراً حول سؤال الحقيقة سواء كانت حقيقة الموجود أم حقيقة الوجود بأسره، وفي اللحظة نفسها يُثار سؤال النص بما هو سؤال تجربة الكتابة في الأساس. وتفترض تجربة العشق اضطراراً هذا الثنائي: الذات العاشقة (الرجل ميخائيل) والآخر المعشوق (المرأة رامة).
لكنَّ تجربة العشق التي تفترض اضطراراً تلك البنية الثنائية لا تنكشف لنا إطلاقاً إلاَّ من خلال الذات العاشقة: الرجل ميخائيل. وهو انكشاف مخصوص بكينونته في الذاكرة.
ويَنتج عن ذلك افتراض نظري مؤدَّاه أنَّ بنيات المكتوب هي نفسها بنيات في الواقع. وهذا معناه أنَّه في اللحظة التي ينشأ فيها درسٌ لبنيات المكتوب ينشأ بالضرورة وبحكم الاضطرار درسٌ لوجود الموجود. هذه الضرورة هي ما أطلقتُ عليه وصف الاشتغال (الأنطوبلاغي). وهو وصف فرضته تجربة النص من حيث كونها تجربة كينونة في الذاكرة لم يكن لها أن تظهر أو تعرض نفسها إلا من خلال تجربة الكتابة.
وعليه، يقصد النص بما هو تجربة كتابة إلى اصطناع بنيات تمضي بالذات العاشقة والآخر المعشوق نحو إنجاز كينونة الواحد، وهذا معناه اضطرار المكتوب إلى الاضطلاع بهذا العبء، وهو إذ يضطلع به يصطنع لنفسه قانونا يُراوح به بين بنيات حرفية وبنيات مجازية مراوحةً تكفل له هذا القصدَ.
وعلى نحو أدق: إنَّ قانون النص الذي يدَّعيه لنفسه هو أنَّ بنيات الكتابة- سواءً كانت حرفية أم مجازية- تنوب عن بنية تجربة التبادل الجسدي الشهواني وتقدر على أن تكررها إلى مالا نهاية تكراراً يُكَرِّرُ حضورَ كينونة الواحد على وجه التحديد، ذلك الذي يضمن تماميةَ المعنى وفورية الحضور كما يضمن في الآن نفسه وحدةَ نظام الحقيقة من حيث كونه نظام حقيقة الحق الأثير: كينونة الواحد.
ثمَّ يطرح نايل سؤالا مؤداه كيف تستنُّ بنياتُ الكتابة القوانينَ التي تكفل إنفاذَ قصدها؟ مع إنَّ قصده لم يكن أثناء الدرس إلا جَعْل تمفصلات النص البنيوية ـ- تلك التي تمثل النقطةَ العُليا المعلِنة عن قصد البنية النصية من حيث هي بنية كتابة ـ تشرع في الظهور، وهي نفسها التمفصلات التي تشي بلحظات انقطاع داخل البنية، تجعل البنيةَ تحيد عن قصدها الذاتي الذي اشترعته لنفسها بحكم حركتها الذاتية؛ ما يُومِئ بغرابة إلى نوع من الضلال الذي يقود البنيةَ ويصممها منذ البدء حتى الختام.

بيان الإمارتيّة

التعليقات مغلقة.