الهامشُ الانشقاقي: الكرةُ خلفَ المرمى/ د. فريد سعدون

24

هل جربْتَالكرة خلف المرمى أن تكون خلف المرمى، تلهثُ وراء كرةٍ شاردةٍ من الملعب ؟ تلتقطُها، ثم تركلُها بزهو في فضاء مدجّج بلاعبين أساسيين / مركزيين، تمتحنُ فحولتَك المهدورةَ من خلال إظهارِ قدرتِكَ على التقاطِ الكرة بسرعةٍ خاطفة، بعد تسديدةٍ خائبةٍ لهدّاف مُحترف، ترنو إلى تلك اللحظةِ التي يُنادى فيها عليك بالانقضاضِ على كرةٍ هاربةٍ من ضربةِ جزاء، ثم تتلهّفُ إلى قدَرٍ يخطّط ُ للفتْكِ بركبةِ لاعبٍ، في تلك الغفلةِ التائهةِ للزّمن المصونِ بحركةِ الأفلاك، تتدرّجُ إلى الملعب لتعلنَ انشقاقك عن الهامش، وبدء تاريخٍ جديد لأهلِ المركز.
مع ولادةِ مركزيتك تبدأُ هامشيةُ آخر، فهؤلاء حشودٌ تتدافعُ للاستحواذِ على موطِئ قدمٍ لها حول الملعب، بينما الملعبُ يحتفظُ بأقليةٍ تستلبُ أناقتَه، وتستبيحُ اخضرارَه النديّ، وتستبدُّ ببريقِ أهدافِه على الشاشةِ الفضّية، فكلّما أُميطَ اللثامُ عن هامشٍ، كان التالي يتقدّمُ بشغفٍ لينفخَ عن أسمالِه رمادَ الغياب، إنّها إستراتيجيةُ الاحتيالِ على الواقع، اللعبةُ المتدرّعةُ بإغواءاتِ التسديد في مرمى السُّلطةِ التاريخيّة، وخرقُ الأنظمةِ المعهودةِ في ألواحِ الخليقة.
الهامشُ المنذورُ للنسيان يرفضُ الانتظامَ في طوابيرَ الاستجداء، ويقاومُ كياناتِ المركز النمطيَةِ السّافرة، ويحاولُ الإفلاتَ من سطوةِ التغييب، بيدَ أنّ المركزَ لا يفتأُ يصنعُ لنفسهِ هوامشَ تتكفّلُ بجمعِ الكرات القصيّة، فيدفعُ بها إلى المحيطِ كي تضمنَ له الإمدادَ والتموين، ثمّ يطبّق عليها قوانينَهُ الاستبدادية، فينمعُها من ارتداءِ قمصانَ وسراويلَ الفريقِ الأصلية، ويحرمُها من لعبِ مباراةٍ رسمية، ويحذفُ الأهدافَ التي يسجّلُها لأنها غيرُ مُعترَفة، و لأنها محكومةٌ بلوائحِ الإقصاءِ والإبعاد.
في مساحاتِ النّبذِ والتعارض والإقصاء هذه، تنكشفُ آلياتُ التعايش بين الهدّافِ والهامشي، وضرورة التكيّف بينهما، إذ لا يستطيع الهدّافُ الاستغناءَ عن الهامشي، وليس بمقدور هذا الأخير أن يتخلّصَ من الهدّاف، رغمَ نقمتِه عليه، وكُرهِه له، وتطلّعهِ – دائماً – إلى إحرازِ مكانتهِ، واغتصابِها منه.
ويحاول الهدّافُ الحفاظَ على تماسكِ بناءِ الهامشي وسبْكِ متنِه، ولا يتوانَى عن تعليمِه بعضَ التمارين الفنية، وتقويةِ بنيتِه الجسديّة، وتدريبِه على الالتقاطِ، وسرعةِ الجرْي، وخفةِ الحركات، ولكنّ وعيَ الهامشيّ لا يتركُ له فسحةً لفهمِ حقيقةِ هذا الاهتمام، ولا يستطيعُ التمييزَ بين الاختياراتِ الواعيةِ للهدّاف، والإشاراتِ اللاشعوريةِ التي تهمزُ في أعماقِ الهامشي، وتشي بنوعٍ من الانتقامِ أو الانقلاب، من دون تحديدِ الملامحِ أو الآليات، وجدوى هذه الإشاراتِ ضئيلةٌ، فهي تستغني عن الاشتغالِ واقعياً، وتبقى في حدودِ الأحلامِ والأوهام، إذ لا يمكنُ الوصولُ بها إلى نتائجَ حاسمةٍ، ولكنْ قد تكونُ في بعضِ الأحيان مطيةً للارتحالِ بحثاً عن الانتقامِ، أو العلاجِ من داءِ الهامشية، ويعملُ هذا الأسلوبُ وفقَ تجربةِ الفرادة، إذ لا يمكنُ تعميمه، فالهامشيُّ يعلنُ عن نفسهِ بفعلِ الأثرِ الذي يتركهُ وفق استراتيجية يختارها و ينفّذها، وتعدّ إدارةُ عمليةِ التنفيذ والارتحال واختيار المطيّة مهمة ميدانية تفاعلية، تحتاجُ إلى تعديل في الواجبات والسلوك والأفكار، وإنشاءِ علاقات قوية بين الهامش والهامش من جهة، وبين الهامش والهدّاف من جهة أخرى، من أجل التغلّب على الثقافة السائدة، ونسفِ قوانين الملعب الجائرة المعهودة، وعمليةُ تطبيق هذه الاستراتيجية من أكثر المهام تعقيداً واستهلاكاً للوقت، ويتطلّبُ التغييرُ أو الارتحال أو الانقلابُ التخطيطَ والكفاءةَ والمثابرة، وقدراً كبيرا من التحمّل ورباطة الجأش، فإن الاختيارَ ما بين الاستمرارية على الجمود والقبول بالأمر بالواقع، أو التغيير والانقلاب، تعدّ مسألةً جوهرية تفرضُ نفسها دائماً لكشف الرغبة أو الإرادة عند الهامشي، وهي استراتيجيةٌ مستمرة ولا نهائية، إذ ما دامت ثنائية: الهامشي / الهدّاف أزلية، ستبقى كذلك مسألةُ الرغبةِ في الانفلات من ربقة التهميش أزلية، وتخضعُ هذه المسألةُ إلى جملة من الظروف الخارجية، من تأثيرات البيئة المحيطة والثقافة المجتمعية والوعي والتأثيرات الاقتصادية والسياسية والتعليمية، وهناك تداخلٌ وارتباط وثيقٌ بين هذه المؤثرات والفعل الذاتي المتعلق بالفرادة والخصوصية الشخصية، ومن الواضح أنه لا بد أن يكون هناك تناسبٌ جزئي بين الطرفين حتى يتمّ تعزيز الرغبة في الانقلاب والانفلات، ولكن يمكن الإشارة إلى أن التغيير لا يحدثُ دائماً بطريقة منظمّة يمكن التنبؤ بها، فقد تتوالى الأحداثُ بسرعة أو على شكل طفرة / ثورة / هجمة خارجية تغير معادلة الهدّاف والهامشي، حيث يتم تبادل الأدوار بطريقة قسرية رهيبة، ويكون لنتائجها تبعاتٌ تستمر لعقود، ويجب الانتباه إلى أن هذا التبادلَ في الأدوار لا يعني شيئاً بالنسبة لثنائية : الهامشي / الهدّاف، فهي – كما قلنا – أزلية، لو افترضنا أن اللاعبين الأساسيين كلهم خرجوا من الملعب، ودخل بدلاً منهم الهامشيون، فإن الذي يحدث فقط هو تبادل الأدوار، وستحافظ المعادلة على ثباتها، وسيعود الهامشيُّ الجديدُ إلى ممارسة دوره في التقاط الكرات الشاردة، بينما سيسود الملعبَ هدّافٌ جديد يكون بحاجة إلى هامشي يلمّ له الكرات خلف المرمى.
في نهاية المطاف لا بد من التنويه أن هذا الهامشَ لا يكون على سوية واحدة، إذ لا نعدم أن نجد فيهم شاذين أو سلبيين، منهم مثلاً: اللص، فقد تتدحرج الكرةُ في مسالك غير محروسة، فليتقطها ويغيّبها، لا بحثاً عن التدريب واللعب، بل بغية الاستفادة المادية، ومنهم الحاقد الذي ينتظرُ أن يلتقطَها ويغرسَ فيها خنجرَه تشفياً من لاعبٍ يكرهُه أو بينهما عداوة شخصية.
فالهامشي الانشقاقي هو الذي يتبع استراتيجية تنافسية، ويختار عن قصد الأنشطة المختلفة التي تتميز بالبراعة والإبداع، ويصرّ على إزاحة الهداف من الملعب.

التعليقات مغلقة.