«آلة الزمن» لويلز: التقدم وأخوته في أدب ترفيهيّ/ إبراهيم العريس

33

8c0841fcb66d49878ccc0f1562397a13في خضم هيمنة التزمت الفكتوري الصارم على المجتمع وعلى الأخلاق في انكلترا، أواخر القرن التاسع عشر، كانت ثلاث أفكار رئيسة تشغل بال هـ.ج. ويلز منذ سنوات وعيه الأولى: موقع العلم في حياة البشر، ولماذا تحتاج الأفكار العلمية الجديدة الى وقت طويل قبل ان تتحول الى قواعد ثابتة للسلوك والتصرف، والثانية مسألة الصراع داخل المجتمع بين التقدم والتخلف، علماً أن التقدم هو دائماً لمصلحة الطبقات المحرومة والبائسة، بينما التخلف سلاح الطبقات السائدة والتي اغتصبت الثروات والمزايا كلها، أما الفكرة الثالثة ففحواها سؤال كان ويلز يطرحه على نفسه بكل شراسة: كيف يمكن للإنسانية التي ننتمي اليها ان تجابه عصر الكهرباء والمخترعات العلمية الحديثة، وهي تحمل في داخلها كل الأفكار (حول الحياة والجنس والأخلاق) الموروثة من العصور الوسطى والتي لا تزال سائدة على رغم كل شيء؟ والحال ان هـ.ج. ويلز كان يدرك تماماً، وفي أعماقه، ان الأفكار الثلاث هذه ليست في حقيقتها سوى بنت فكرة واحدة، وأن التوعية يمكنها ان تلعب دوراً كبيراً في توضيح الأمور والسير بها قدماً، في زمن كانت فيه صرامة الأخلاق الفكتورية تحدث في الناس فرزاً مدهشاً. وفي هذا الفرز، أو المجابهة، كان من الواضح ان ويلز يعرف ما يتعين عليه فعله. والحال ان كل ما كتبه وما فعله كان ينضوي تحت هذه اليافطة حيث ان في امكاننا اليوم ان نقول ان هذا الكاتب خاض المعركة حتى نهاية حياته. وغالباً وحيداً، في شكل جعل كتبه، سواء كانت روايات أو بحوثاً أو أفكاراً متجاورة، شهادة أساسية على زمنه وعلى الدور الذي يجب على المثقف الكاتب ان يلعبه في مثل هذا الزمن. وبهذا، اعتبر ويلز واحداً من آخر تنويريي القرن التاسع عشر المنتمين الى فلاسفة التنوير الذين جاهدوا وكتبوا في القرن السابق على ذلك القرن، جاعلين العقل والعلم سبيلين الى تقدم الإنسان.
> وإذا كان هناك نص لـ هـ.ج. ويلز يلخص هذه الأفكار كلها، فهذا النص هو روايته الكبرى «آلة الزمن» التي على رغم مرور أكثر من قرن على كتابتها، لا تزال حديثة ومتقدمة الى اليوم، ذلك ان ويلز جمع فيها، في بوتقة واحدة، إيمانه بالعلم وبالتقدم وبالإنسان، وعبّر من خلالها عن جوهر الصراع بين التخلف والتقدم.
> صدرت «آلة الزمن» في لندن في العام 1895، أي في أوج هيمنة العهد الفكتوري (نسبة الى ملكة بريطانيا في ذلك الحين فكتوريا). وعرفت الرواية منذ صدورها نجاحاً سريعاً وكبيراً، وإن كان اسم مؤلفها غير معروف على الإطلاق. ولسوف تساهم الرواية طبعاً في جعله معروفاً وفي جعل القراء يتدافعون لشراء كل ما يصدر له من أعمال بعد ذلك. ولعل سر النجاح الأول الذي كان من نصيب الرواية، هو أنها مزجت كل الأنواع الأدبية التي كانت معروفة في الأدب الإنكليزي عهدذاك، من أدب الخيال العلمي، الى رواية الرعب، الى أدب الصراع الاجتماعي، الى الأدب التاريخي، الى الأدب المستقبلي، وما الى ذلك، جامعة كل هذا لتقدم من خلال حكاية ما عتّم القراء ان ادركوا بسرعة انها انما تتحدث، تحديداً، عن الزمن الذي يعيشون فيه، وعن المشكلات والصراعات التي تدور، أو يجب ان تدور، من حولهم.
> في هذه الرواية يتمكّن البطل «مكتشف الزمن» من ان يخترع آلة عجيبة غريبة تمكن راكبها، وهو المخترع نفسه، من ان يتحرك بين الأزمان كما يتحرك المرء عادة بين الأماكن في المركبات العادية. وإذ يقوم البطل، راكباً سفينته، برحلات عدة، يكون مقصده الأول العام 701 802 الميلادي. وهناك، اذ يصل الى منطقة من العالم تعيش حياتها في ذلك العهد المستقبلي البعيد، يلتقي صاحبنا بمخلوقات غريبة ومثيرة للفضول، سرعان ما يعرف انها من شعب الإيلويس، وهم عرق من الناس شديدو الوسامة والجمال، لكن نشاطهم يقتصر على اللعب والأكل والنوم. غير ان ما يدهش مكتشفنا أكثر من أي أمر آخر هو ما لاحظه من ان أفراد هذا الشعب اللاهي الجميل يعيشون رعباً مروعاً من الظلمة، فهم لا يستطيعون مجابهة العتمة على الإطلاق. وإذ يتحرى المكتشف الأمر، يدرك السر: ففي باطن الأرض، يعيش شعب غريب هو الآخر، يسمى المورلوك. وأفراد هذا الشعب كائنات منفرة الشكل، لا يمكن النظر اليها، لأنها تشبه الإنسان… وهذه المخلوقات تتميز على رغم هذا بالنشاط والجرأة. والحقيقة هي ان شعب المورلوك، هم سادة الكوكب الحقيقيون الآن. أما الحقيقة الأكثر إثارة للرعب فتكمن في ان المورلوك انما يتغذون من أجساد الإيلويس، الذين كانوا سادتهم السابقين. وعلى مر الزمن كانت قدرة الإيلويس على القتال والمقاومة قد هوت ما جعلهم يعيشون عيش عبودية مطلقة ازاء المورلوك، مؤمّنين لهؤلاء الآخرين كل ما يريدونه وما هم في حاجة اليه.
> وهكذا يكتشف قائد آلة الزمن، ومنذ رحلته الأولى ان هذا الفردوس الظاهر الذي وصل اليه، وبدا منذ البداية معجباً به، ليس في حقيقته سوى الجحيم الحقيقي… ولن تتوقف الاكتشافات المكدّرة عند هذا الحد، ولكن مع هذه الرحلة الأولى، اكتشف القراء حقائق صحيح أنهم لم يكونوا بالساهين عنها، لكنهم كانوا يعتقدون امكانية ان يعيشوا ضاربين صفحاً عن التفكير فيها، فإذا بالرواية تأتي لتضعهم مباشرة في مواجهتها.
> مع هذه الرواية التي لا بد من الإشارة الى ان السينما في القرن العشرين عادت اليها مراراً وتكراراً، لفرط ما فيها من أبعاد بصرية وأفكار عميقة في بساطتها، مع هذه الرواية، كان هـ.ج. ويلز قد عرف طريقه، من ناحية لكي يكتب نصوصاً جذابة ومسلية، ومن ناحية ثانية، لكي يبث افكاره الاجتماعية: وإذا كان لنا ان نختصر وصف هذه الدرب بعبارة واحدة يمكننا ان نقول انها درب رجل العلم وقد حمل على كاهليه رسالة تبشيرية اجتماعية/أخلاقية واضحة. فالحال ان ما ترسمه لنا هذه الرواية انما هو صراع الخير – ممثلاً بالطبقات المسحوقة المستغلة – ضد الشر – ممثلاً بالسادة والبورجوازيين – أما فحوى هذا الصراع فإنما هو دفن ذلك العالم الذي كان في ذلك الحين يعيش نهايته ونهاية قيمه: العالم الفكتوري وقيمه الأخلاقية المحافظة الصارمة، وذلك استعداداً لاستقبال العالم الجديد الذي يبشر بالمجيء على أساس العلم والعقل. وهذا ما نبه سريعاً الى أن أدب ويلز ليس، في حقيقته، سوى سلاح رائع في الحرب ضد مجتمع زمنه.
> والحقيقة ان هربرت جورج ويلز (1866-1946) كان يعي تماماً ما يفعله ويكتبه وينادي به، منذ سنوات شبابه الأولى. فهو ولد في مدينة بروملي في مقاطعة كنت في انكلترا لأب كان بائع خزف، وكان منذ طفولته فتى مفكراً وحيداً دفعته وحدته وضعفه الى اللجوء الى القراءة فأغرم بأدب الرحلات وبالأدب العلمي. وكان في الرابعة عشرة من عمره حين ترك المدرسة ورفض مواصلة المعاونة في دكان أبيه رافضاً السجن الاجتماعي الذي كان مقدراً للفتيان في سنه وفي وضعه الاجتماعي. وبعد سنوات كفاح عسيرة تمكّن من الحصول على منحة مكنته من دراسة علوم الحياة في متحف ساوث كنزنغتون في لندن. ثم كان لقاؤه الحاسم مع العالم الكبير توماس هكسلي، ما جعله يعتنق افكار داروين وسبنسر حول التقدم، وهي افكار لا بد من الإشارة الى انها طبعت لاحقاً كل كتاباته وأفكاره العلمية والاجتماعية. أما «آلة الزمن» فكانت أول رواية له تنشر حاملة اليه الشهرة والثراء. وهو منذ ذلك الحين لن يتوقف عن الكتابة، فراح يصدر الكتاب تلو الآخر، من «جزيرة الدكتور مورو» الى «أول البشر فوق سطح القمر» الى «حرب العوالم» الى «الرجل الخفي» وهي كلها كتب اشهر من ان تعرف اذ ترجمت الى عشرات اللغات ووزعت في ملايين النسخ. لكن ويلز كتب ايضاً نصوصاً غير روائية اشتهرت بدورها مثل «يوتوبيا حديثة» التي عبر فيها عن حلمه بتأسيس ارستقراطية جديدة تعثر في العلم على دروب سلطة مطلقة تمكنها من السيطرة على الطبيعة، على نفسها وعلى نزواتها المنحرفة.

عن الحياة

التعليقات مغلقة.