الفَطام عن الحليب الأزرق

19

24qpt990لأسباب عربية خالصة، وذات صلة بفائض المكبوت، اقترن اسم هنري ميلر بما يلبي القراءة التعويضية، اي تلك التي تتيح للرغائبية والاسقاطات النفسية ممارسة نفوذهما على النصّ، وحين تُرجمت بعض اعماله الى العربية تعرّضت الى تدجين لغوي، كي لا نقول الى إخصاء، سواء من خلال استبدال مفردات بما لا ينوب عنها من معجم المترادفات، او من خلال الحذف، لكن كتابه عن رامبو زمن القتلة، الذي ترجمه الشاعر سعدي يوسف كان في منجى من التصرف تلبية لنوازع اخلاقية هي في حقيقتها غير ذلك تماما، لأنها تستجيب لما يمليه الرقيبان الذاتي والرسمي من زجر، لهذا فإن كتابه بعنوان الكتب في حياتي هو بمثابة جملة معترضة في سياق سيرة مختزلة الى حدّها الأدنى، وهو الجنس وهواجسه، فهنري ميلر قرأ اولا، ورضع الحليب الأزرق في زمن الكتابة باليد من مئات وربما ألوف الكتب، من الفلسفة الى الرواية مرورا باللاهوت، وكتابه ضمّ قائمة بأهم مئة كتاب أثّرت في تكوينه، وبالتالي في تشكّل وعيه ككاتب مضاد للامتثالية والتأقلم الذي طالما تردّى فيه آخرون ممن وجدوا ان التحليق خارج السّرب باهظ التكلفة، حتى لو كان هذا السرب من الغربان، وحين قرأت قائمة المئة كتاب، التي قال ميلر انها اثّرت فيه اكثر من سواها، لم اجد من بينها سائق شاحنة او صعاليك على هامش الشارع الخامس في نيويورك، فهذه النماذج لم تؤلف كتبا، تماما كما ان ملهم البير كامو في حي بلكور الجزائري وهو صانع براميل لم يؤلف كتابا، او ملهم كازانتزاكي وهو زوربا كَتَب حرفا واحدا، لأن ما كتبه كان بقدمين حافيتين تهجى بهما شعاب العالم، وكانت رقصته الشجية بمثابة نصّ مدون في الريح اثار حسد صاحبه المثقف والروائي!
حين كتب ميلر عن رامبو الذي كان توأمه، الذي تأخرت ولادته عقودا، كان يروي سيرته الذاتية بضمير الغائب ويتقمّص صاحبه الذي يشبهه في عدّة اشياء منها، العصيان المبكر، وشكوك العائلة في جدوى الكتابة، والتشرد خارج الوطن.
في عام 1943 قرأ ميلر رامبو للمرة الاولى واعترف فور فراغه من قراءة فصل في الجحيم بأنه فقد القدرة على النطق ونسي احباطاته وعذاباته وتحولت حياته بعد ذلك الى أغنية رامبوية، ويعترف بأنه لو قرأ رامبو قبل الشروع في الكتابة لما كتب حرفا واحدا، ما دام هناك من ناب عنه، وكرر ذلك في حوار اجراه معه جورج ويكينز في مجلة «ذي باريس ريفيو» عن الكاتب لويس كارول، وقال انه مستعد للتنازل عن يده اليمنى مقابل ان يكون صاحب احد مؤلفاته، ولم يقل ناقد امريكي عن ميلر بأنه النابغة الامريكي لأنه كتب في العقد الرابع من عمره كما قيل عن شاعرنا النابغة، وبلوغ الرشد الروائي لديه هو على النقيض من بلوغ الرشد الشعري لدى توأمه اللدود، لأن رامبو لثغ بالشعر طفلا، وفطم نفسه عنه وهو لم يبلغ الثلاثين .
٭ ٭ ٭
ان قراءة عاجلة لقائمة الكُتّاب الذين أثّروا في حياة ميلر وساهموا في صياغة وعيه هي بانوراما تشمل الفلسفة والأدب والأسطورة شرقا وغربا، وللمثال فقط نذكر الفيلسوف نيتشة وراقص الباليه نيجنسكي في مذكراته، وتوماس مان وجيمس جويس وهنري فايبر وجان جيونو وآخرين، فهو لم يكن متفرغا للاصغاء الى ايقاعات الجسد فقط او مستغرقا في تلبية نداءاته، وعلى العكس من ذلك، فرغم ما يبدو من افراط في الحسيّة لديه، قام بما يسميه فرويد بالتصعيد كمقابل لما يسميه جورج طرابيشي التّسْفيل، ولو شئت اقتراح عنوان آخر لكتاب ميلر لكان لماذا أقرأ، وذلك كمقابل وليس مرادفا لكتاب جورج اورويل بعنوان لماذا أكتب، فالقراءة ليست مجرد حالة من التلقي بقدر ما هي نوع من التصادي في أقاصي الهواجس المشتركة بين من يكتب ومن يقرأ، لهذا قال انه لو قرأ رامبو مبكرا لما كتب حرفا واحدا. وليس ميلر وحده من انفرد بالاعتراف الذي يشحنه عرفان بمن علّموه، فهذه ظاهرة لا يصعب تقصّيها في الثقافة الاوروبية منذ زمن طويل، فعلى سبيل المثال يقول جورج ستاينر ان القراءة تغيّرنا وهذا ما احسّ به بعد قراءة اعمال تولستوي وكافكا بالتحديد.
اما جان بول سارتر فقد كان يفضّل لقب قارئ على سلسلة من الألقاب التي يغدقها النقد بالمجان على بعض الكُتّاب، هكذا يعيد هؤلاء ومنهم ميلر الاعتبار لمفهوم القراءة باعتبارها مشاركة وتصاديا واحيانا تنفّسا من رئة المقروء .
٭ ٭ ٭
في كتاب ميلر فصل طريف عن القراءة في مختلف الامكنة غير المعدّة لهذا النشاط ومنها الحمام، وهذا الفصل عصيّ على الاختزال لأنه يُقرأ عدة مرات، على طريقة ذلك الموسيقي الذي طلب منه الحضور ممن يصغون اليه ان يشرح موسيقاه، فضحك وقال ان شرحها الوحيد يكمن في اعادة عزْفها.
يقول ميلر في روايته «عملاق ماروسي» التي تشبه السيرة الذاتية او تنشحن بها حتى ادق التفاصيل واثناء رحلته الى اليونان، ان الغرباء الذين يحلمون بالذهاب الى امريكا لا يعرفون عدد العاطلين عن العمل فيها ولا يعرفون بؤسها وفراغها، يقول ذلك لعدد من الطلبة الاتراك والعرب الذين يعتقدون بأن السعادة هي في الحصول على مجوهرات امريكا التكنولوجية، ثم يلعن امريكا لأنها ديستوبيا او مدينة راذلة مضادة لليوتوبيات كلها ويقول انها نموذج لتصلّب شرايين الحضارة، وهذا هو ما قاله رامبو في رسالة من عدن عام 1888، لكن ميلر يعود بعد ذلك في احد الحوارات الى القول بأنه ضد امريكا مئة بالمئة لأنه امريكي مئة بالمئة، تماما كما ان توأمه لعن فرنسا لأنه فرنسي جدا! وبهذا المنطق يعترف ميلر بفضل من علّموه ثم يدعو الى التحرر منهم كي يضيف اليهم ولا تكون كتابته اجترارا كالبقرة.
٭ ٭ ٭
تندر في ثقافتنا العربية مثل هذه السيرة المعرفية، رغم انها بدأت مبكرا ولدى ابن سينا بالتحديد، فنحن نكتب عمّا نكتب وليس عمّا نقرأ، وهناك من يتصورون بأنهم كالماعز، يرضعون الحبر الأزرق لبعض الوقت ثم يتفرغون لافراز الحليب، لأن ظلال واصداء وادي عبقر واوهام الموهبة حرمت البعض من الرضاعة من اثداء مُترعة بالحليب، واستعاضوا عن ذلك برضاعة اصابعهم، ثم تولوا ارضاع دمى من مطاط او قشّ بانتظار ان تنمو! وحين نقرأ في حوارات صحافية عابرة ما يقوله البعض عن قراءاتهم ومصادر المعرفة لديهم، نطوي الصفحة ونحن نردد:
ان الله يحب ان يرى اثر نعمته على عبده، وكذلك القارئ الذي شبّ عن الطوق، ولم يعد قابلا للانخداع او ابتلاع طعم يدرك بحاسّة شم مدرّبة انه فاسد او مسموم!

خيري منصور/ عن القدس العربي

التعليقات مغلقة.